الاثنين، 22 يونيو 2020

أدلة الإجتهاد والتقليد (بالتفصيل) | سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

أدلة الإجتهاد والتقليد (بالتفصيل):

تعريف الاجتهاد
الاجتهاد إصطلاحاً وإن عرّف بتعاريف نقض عليها وأبرم، إلاّ أنّ الّذي يخلو من العديد من الايرادات هو أن نعرّفه بما يلي:

الاجتهاد ومعناه الاصطلاحي

الاجتهاد: يعني الملكة التي يقتدر بها على تحصيل الحجّة التفصيلية على المسألة الشرعية.
هذا معنى الاجتهاد الوصفي، كالشجاعة، والسخاء، والصبر، ونحوها، وقولهم: اجتهد فأصاب، أو اجتهد فأخطأ، معناه: إنّه أعمل هذه الملكة واستخدمها.
ثمّ إنّه هل الملكة هي الاجتهاد نفسه باعتبار الشأنية والقابلية ـ كما ذكرها في تفسيره معظم المتأخّرين ـ أم هي سببه الّذي بدونه لا فعلية للاجتهاد ـ كما ذكره بعضهم وتبعه بإصرار بعض تلاميذه ـ والفرق يظهر في صاحب الملكة الّذي لم يُعملها بعد، فهو مجتهد على التفسير الاوّل، دون الثاني ؟
ربما يتراءى أنّه نزاع لفظي في محلّين لا محل واحد، فتأمّل.

بين التعريفين: المتداول والجديد

وإنّما أضربنا عن كلمة: « استفراغ الوسع » في تعريف الاجتهاد ـ مع أنّ العديد من المتأخّرين استخدموها ـ لسببين:
أحدهما: ما في مادّتها من إيهام الانسداد.
ثانيهما: إنّه وإن احتاج استنباط المسائل غالباً في عصورنا المتأخّرة بقرون عديدة عن أزمنة المعصومين (عليهم السلام) إلى إفراغ الفقيه وسعه، لكنّه ليس دائماً كذلك، فالعديد من المسائل ليست بحاجة ـ في استنباطها ـ إلى إفراغ الوسع بالحمل الشايع، وإن قيل: بأنّ استفراغ وسع كلِّ مسألة بحسبه، لكنّه منصرف عنه اللفظ ظاهراً في عديد من الموارد، فتأمّل.
وقلنا: « الحجّة » دون الحكم وغيره، ليعمّ الادلّة، والطرق، والامارات، والاُصول العملية، بأحكامها، أو تنجيزاتها واعذاراتها.
و « التفصيلية » مخرجة للحجّة التي يتمسّك بها المقلّد، وهي إجمالية وفي كل المسائل واحدة، وفي نفس الوقت شاملة للانسداد كما لا يخفى.
و « المسألة » تشمل التكليف والوضع جميعاً.
و « الشرعية » دون الفرعية، لتشمل المسائل المتعلّقة بأُصول الدين ممّا يقلّد فيها إمّا مطلقاً إن أوجب العلم على المختار، أو بعض شؤون أُصول الدين ممّا اتّفق الجميع على جواز التقليد فيها كخصوصيات القيامة.
وشمول « الشرعية » للادلّة والاُصول التي مدركها الفطرة أو العقل، أو بناء العقلاء، كالاشتغال والبراءة العقليين ونحوهما، إنّما يكون باعتبار قبول الشرع لها في مواردها، وهذا يغني عن إضافة العقلية وغيرها إلى الشرعية، فتأمّل.
وهذا التعريف وإن لم يدّع فيه الكمال، إلاّ أنّه ربما يكون أقلّ إيراداً ـ على الظاهر ـ من غيره، والله العاصم.

من خصائص ملكة الاجتهاد

تعريف الاجتهاد
ولا يخفى أنّ ملكة الاجتهاد ليست كسائر الملكات التي تحصل غالباً إمّا بتأمّل منافعها ومضار عدمها، وترجيح الاُولى على الثانية، وإمّا بتحميل النفس ما يسانخ آثارها، كالشجاعة، والسخاوة، والعدالة ونحوها.
وإنّما تحصل ملكة الاجتهاد بمعرفة العلوم التي يتوقّف عليها الاستنباط، دون تأمّل المنافع والمضار، ودون نفس الاستنباط، فإنّ الاوّل لا ينفع، والثاني غير ممكن، نعم تزيد هذه الملكة بزيادة الاستنباط وممارسته أكثر فأكثر.
وما ذكره بعضهم: من إنّ الاجتهاد قوّة قدسية، أو نور يقذفه الله في قلب من يشاء، ونحو ذلك، فالظاهر من تأمّل أمثال ذلك ـ ولو لمناسبة الحكم والموضوع ـ إنّه لا يريد الاجتهاد المصطلح بل يريد الاثار الاُخروية المترتّبة، أو الاجتهاد الّذي يجوز رجوع العامي إليه وتقليده، وإلاّ فالاجتهاد الّذي هو محل البحث ممكن الحصول للفاسق والعادل، والمنافق والمؤمن، بل والكافر والمسلم، والمرائي والمخلص، وغيرهم، لتسبّبه بإعمال القوّة النظرية المذكورة.
وعلى أمثال ذلك يحمل ـ إن لم يكن الظاهر ـ ما ورد في الاثر نحو ما روي عن الامام أمير المؤمنين (عليه السلام): « ألا أُخبركم بالفقيه حقّاً ؟ من لم يقنّط الناس من رحمة الله... ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره »(13).
وما روي عن الامام الصادق (عليه السلام): « لا يكون الرجل فقيهاً حتى لا يبالي أي ثوبيه ابتذل، وبما سدّ فورة الجوع »(14). ونحوهما غيرهما.

المعنى الجديد للاجتهاد وبعض مزاياه

ثمّ إنّ هذا المعنى للاجتهاد هو المعنى الّذي ليس فيه مسرح لنزاع العامة ولا الاخباريين، وإن كان الاجتهاد قد فسّر بتفاسير أُخرى أوجب ذلك إنكار العامة والاخباريين له، مثل: « تحصيل الظنّ على الحكم الشرعي » أو غير ذلك ممّا لم يكن مراد جميع المفسّرين له بهذا المعنى شيئاً أوجب الايراد عليهم، وإنّما كان مرادهم نفس ما نقوله، ولكن قصور تعبيرهم، أو عدم التفاتهم إلى بعض ما يورد على تعبيره والمجتهد بلفظ: الفقه والفقيه والاستنباط والمستنبط، ممّا ورد في الكتاب والسنّة، وليس مسرحاً للنزاع اللفظي، ليتلف الوقت فيما نحن عنه في غنى.

الدليل على الاجتهاد

وعلى كل حال: فيدلّ على الاجتهاد بهذا المعنى ـ الّذي هو الفقه والاستنباط ـ وجوباً أو جوازاً، تكليفاً أو وضعاً، الادلّة الاربعة، مضافاً إلى بناء العقلاء.

الاستدلال بالكتاب الحكيم

أمّا الكتاب: فطوائف وقد أورد السيّد البروجردي (قدس سره) في كتاب: « جامع أحاديث الشيعة » أكثر من ستّين آية منها وفي أبواب متعدّدة(15).

القرآن وحجّية الظواهر

منها: الايات الدالّة على حجّية ظواهر الكتاب ووجوب العمل بها، وهي تعدّ بالعشرات بين نصّ في ذلك، وبين ظاهر دالّ عليه بالمطابقة، أوالتضمّن، أو الالتزام، نذكر بعضها، كقوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)(16).
وقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ)(17).
ودلالتهما واضحة بـ « اتّبعوا » و « فاتّبعوه ».
وقوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)(18).
وقوله تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ)(19).
وقوله تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً)(20).
ودلالتها بالتلازم، إذ لا معنى لتلاوة ما حرّم الله عليهم: إلاّ أن يعملوا به ويأخذوا بظاهره، ولا معنى لعدم إنزال الكتاب إلاّ للبيان: إلاّ العمل به والاخذ بظاهره، وكذلك لا معنى لكون الايات بصائر: إلاّ أن يؤخذ بظاهرها، وهل التفقّه والاجتهاد إلاّ الاخذ بظاهر القرآن واستفادة الاحكام منه ؟

القرآن وحجّية السنّة النبوية

ومنها: الايات الدالّة على حجيّة سنّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي أيضاً كثيرة نذكر بعضها، كقوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(21).
وقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ)(22).
وقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(23).
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ)(24).
إلى غير ذلك، بتقريب أنّ ردّ المتنازع فيه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والانتهاء عمّا نهى عنه، واتّباعه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس كلّ ذلك ـ عرفاً ـ إلاّ الاخذ بظاهر قوله، والعمل عليه، وليس التفقّه والاجتهاد إلاّ هذا.

القرآن وحجّية كلام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)

ومنها الايات الدالّة على حجّية كلام الائمّة المعصومين (عليهم السلام)، وهي أيضاً عدّة آيات نذكر بعضها كقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ)(25).
وقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(26).
إلى غير ذلك، بتقريب أنّ طاعة أُولي الامر، وهم: الائمّة المعصومون (عليهم السلام)من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والردّ إلى أُولي الامر ليس ـ عرفاً ـ إلاّ الاخذ بظاهر أقوالهم والعمل بها، وهل التفقّه والاجتهاد إلاّ هذا ؟
فإذا قال المولى أطيعوا ابني، وردّوا إليه كلّما شككتم في أمري، كان معناه: مراجعة الابن في كلّ ما يشكّ فيه، والعمل بظاهر قول الابن.

القرآن وأخبار الثقات

ومنها الايات الدالّة بدلالة الالتزام، أو الاشارة ونحوهما، على حجّية أخبار الثقات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الائمّة المعصومين (عليهم السلام) كقوله تعالى: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا)(27).
وقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(28).
وقوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(29).
بتقريب أنّ نتيجة مفهوم الاية الاُولى وهي: صدّق العادل، وكذا ظاهر السؤال من أهل الذكر، والحذر عند إنذار المنذرين، ليس إلاّ لحجّية أقوال العادل، وأهل الذكر، والمنذِرين ـ بالكسر ـ وهل التفقّه والاجتهاد، إلاّ ما يستفاد من قول العادل، وقول أهل الذكر، وإنذار المنذِرين ـ بالكسر ـ ؟

القرآن وحجّية التفقّه والاستنباط

وهناك طوائف أُخر من الايات فيها إيماءات وإشارات إلى حجيّة التفقّه والاجتهاد والاستنباط، وهي وما ذكرناها، وما لم نذكرها ممّا جمعه كتاب: «جامع أحاديث الشيعة» وإن كان كلِّ واحدة منها قابلة ولو لخدشة ما في دلالتها، ولكنّها بمجموعها، وضمّ بعضها إلى بعض، وملاحظة سياقها وموارد نزولها، دليل قاطع لا يعتريه شائبة شكّ على حجّية استنباط الاحكام الشرعية الفرعية، ووجوب، أو جواز العمل بما استنبط، وهذا هو معنى الاجتهاد والتفقّه، وهو المطلوب.

الاستدلال بالسنّة الشريفة

وأمّا السنّة: فهي طوائف، جمع منها كتاب: « جامع أحاديث الشيعة » قرابة خمسمائة حديث أودعها في خمسة أبواب(30) نذكر بعضها:

السنّة وحجّية الظواهر

منها: الاحاديث الدالّة على حجّية ظواهر الكتاب، كالنبوي الّذي رواه في مجمع البيان: « إنّ هذا القرآن... عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن تبعه »(31).
وفي الكافي، بإسناده، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث طويل: « وله ـ أي: للقرآن ـ ظهر وبطن، فظاهره حُكْم، وباطنه علم »(32).
وفي الفقيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيتّه لابنه محمّد بن الحنفيّة: « وعليك بقراءة القرآن والعمل بما فيه، ولزوم فرائضه وشرائعه، وحلاله وحرامه، وأمره ونهيه »(33) إلى غير ذلك.

السنّة الشريفة وحجّيتها

ومنها الاحاديث الدالّة على حجّية سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي الكافي، بإسناده إلى اسماعيل بن جابر، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث: « عليكم بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنّته »(34).
وفي الكافي أيضاً، بسنده إلى عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام):«حجّة الله على العباد، النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)»(35).
«أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة ألا وقد بيّنهما الله عزّوجلّ في الكتاب، وبيّنتهما لكم في سيرتي وسنّتي»(36) وغير ذلك كثير.

السنّة وكلام أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)

ومنها: الاحاديث الدالّة على الاخذ بروايات الائمّة المعصومين (عليهم السلام)، مثل النبوي المتّفق على روايته الفريقان: « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها غرق »(37).
ومثل النبوي الاخر كذلك: «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض»(38) وغير ذلك.

السنّة والتفقّه في الدين

ومنها الاخبار الامرة بالتفقّه، وهو لغة واصطلاحاً: فهم الاحكام الشرعية عن مصادرها، وهل الاجتهاد إلاّ ذاك ؟
كخبر عليّ بن أبي حمزة، عن الصادق (عليه السلام): « تفقّهوا في الدين، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين فهو أعرابي »(39).
وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: « تفقّهوا فإنّه من لم يتفقّه منكم فإنّه أعرابي »(40).
وخبر المفضّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: « عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً، فإنّه من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزكّ له عملاً »(41).
وعن أبان بن تغلب، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: « لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا »(42) ونحوها غيرها أيضاً.

السنّة وأخبار الثقات

ومنها الاحاديث الدالّة على حجيّة أخبار الثقات الناقلين عن النبي والائمّة المعصومين (عليهم السلام) مثل ما في رجال الكشي من التوقيع الوارد للقاسم بن العلاء، وفيه: « لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا »(43).
والروايات الكثيرة التي أمر فيها الائمّة (عليهم السلام) بعض أصحابهم بأن يجلس في مسجد المدينة ويفتي الناس(44)أو أن يراجع الناس أباناً(45)، أو الثقفي(46)، أو العمري وابنه(47) وغيرهم(48).
ومنها: الروايات العلاجية، التي تدلّ على علاج تعارض الروايات وما به الترجيح والجمع وغير ذلك، ممّا يدلّ بالالتزام على حجيّة الاجتهاد، والنظر في الاحاديث، واستنباط الاحكام منها.

الاستدلال بالاجماع

وأمّا الاجماع: فمن وجهين: قولي، وعملي.
أمّا الاجماع القولي: فمحصّل مسلّم لم يردّه منّا أحد على الظاهر.
وأمّا العملي ـ وهو المسمّى بسيرة الفقهاء ـ: فهو أيضاً مسلّم لانّ فقهاء الشيعة من زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى زمان الائمّة المعصومين (عليهم السلام) وحتّى زماننا هذا يتمسّكون في كلّ مسألة: بالايات والروايات الواردة فيها، ويجتهدون فيها، حتّى أنّ أصحاب الائمّة (عليهم السلام) كانوا لا يعبؤون ببعض الروايات بحجّة أنّها: « من جراب النورة » وهي الروايات الصادرة تقيّة، وأمّا غير جراب النورة فكانوا يعملون بها.

الاستدلال بالعقل

وأمّا العقل: فإنّه يلزم العبد المطيع أن ينظر في كلمات المولى ويميّز الخاص عن العام، والمطلق عن المقيّد، والوارد والمورود، والحاكم والمحكوم، ويجمع بينها، ويأخذ بما يستنبطه عرفاً إنّه مراد المولى وأمره، فيعمل عليه، لانّ على العبد الطاعة، والطاعة متوقّفة على فهم كلمات المولى، وفهم كيفية الجمع العرفي بين متعارضاتها، واستنباط المراد من بينها، وليس الاجتهاد، إلاّ بذل الجهد في فهم الايات والروايات لتحصيل الحكم الشرعي منها، وهو طريق الاطاعة، والحاكم فيه العقل.

الاستدلال ببناء العقلاء

وأمّا بناء العقلاء: فقد استقرّ على تحصيل أوامر المولى بطريق الاجتهاد والبحث في ألفاظ المولى، وجمع شتاتها، وملاحظة عمومها، وخصوصها، ومنصرفها، وجمع بعضها مع بعض، واتّباع ما يتبادر منها، وغير ذلك ممّا يستعمله المجتهدون في استنباط التكاليف الشرعيّة، ودليل حجّية هذا البناء لنا أمران:
الامر الاوّل: إنّ مسألة الاجتهاد من طرق الاطاعة والمعصية المتسالم عليه بين الفقهاء ـ ظاهراً ـ وأنّ المرجع في باب الاطاعة والمعصية بناء العقلاء، إلاّ إذا ورد دليل خاص على الخلاف كما في القياس ونحوه.
الامر الثاني: ظهور اتّصال هذا البناء العقلائي إلى عصور المعصومين (عليهم السلام)ولم يظهر منهم ردع خاص عن ذلك، ومثله لو كان لبان، فيدخل ذلك في تقرير المعصومي الّذي هو من مصاديق السنّة الشريفة.

تتمّة
الاجتهاد المنهيّ عنه

إنّ ما ورد في بعض الروايات من تحريم الاجتهاد والردّ عليه والانكار على من اجتهد أشدّ الانكار ـ مثل ما في الوسائل عن رسالة: « المحكم والمتشابه » عن تفسير النعماني بإسناده عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) في حديث طويل قال (عليه السلام): « وأمّا الردّ على مَن قال بالاجتهاد فإنّهم يزعمون أنّ كلّ مجتهد مصيب على أنّهم لا يقولون إنّهم مع اجتهادهم أصابوا معنى حقيقة الحقّ عند الله عزّوجلّ لانّهم في حال اجتهادهم ينتقلون عن اجتهاد إلى اجتهاد...»(49) وغيره ـ.
إنّما يراد به الردّ على العامّة الذين يجتهدون في الدين عن إستناد إلى القياس، أو الرأي الشخصي، أو الاستحسان، أو الاولوية الظنّيّة، أو ما شاكل ذلك ممّا هو مألوف لدى علماء العامة، ونفس هذه الرواية واردة ـ لمن لاحظها بطولها ـ في مقام الردّ على العامّة، وبقرينة قوله (عليه السلام): « يزعمون إنّ كل مجتهد مصيب ».
فهذا هو الردّ على المصوبة وهم العامّة لانّهم كانوا يجتهدون في مقابل النص، ولا يعبؤون بالائمّة الطاهرين (عليهم السلام) الذين يجب الاخذ عنهم، ولذا فسّر (عليه السلام)الاجتهاد: بالاجتهاد في البدع واتّباع الاهواء في رواية الكافي باسناده عن اسماعيل بن جابر عن أبي عبدالله (عليه السلام) في رسالته إلى أصحابه، وفيها قوله (عليه السلام): « وقد قال أبونا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المداومة على العمل في اتّباع الاثار والسنن وان قلّ، أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتّباع الاهواء »(50).

الاجتهاد المأمور به

وأمّا الاجتهاد بالمعنى الّذي عندنا ـ وقد مرّ آنفاً ـ وهو الملكة التي يقتدر بها على تحصيل الحجّة التفصيلية على المسألة الشرعية، المرادف مصداقاً للتفقّه والاستنباط المأمور بهما في الكتاب والسنّة: فهو مأمور به في كثير من الروايات وهو اتّباع الاثار والسنن، وهو طاعة الله وطاعة رسوله، وأُولي الامر، وقد ورد لفظ الاجتهاد كثيراً في باب الطاعة التي منها الجهد لفهم الحكم الشرعي كقول أمير المؤمنين (عليه السلام): « ولا يؤدّي حقّه المجتهدون »(51).
وقوله (عليه السلام): « فعليكم بالجدّ والاجتهاد »(52).
وخبر عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي، عن أبي عبدالله في حديث أنّه قال له: « أُوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد »(53).
وقوله (عليه السلام): « عليكم بالورع والاجتهاد »(54).
وخبر أبي أُسامة، قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: « عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد »(55).
وعن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ أباه قال لجماعة من الشيعة: « والله إنّي لاُحب ريحكم وأرواحكم، فأعينوا على ذلك بورع واجتهاد، واعلموا أنّ ولايتنا لا تُنال إلاّ بالعمل والاجتهاد »(56). وغير ذلك فتأمّل.

تأييد وتأكيد

تعريف التقليد
ويؤيّده بل يدلّ عليه: ما دلّ على حجّية رأي المؤمن في آخر الزمان، مع ورود النهي عن العمل بالرأي ممّا يكشف عن أنّ الرأي المنهيّ عنه هو الخارج عن دائرة الادلّة الشرعية، مثل صحيحة هشام بن سالم ـ أو حسنة، بابن هاشم ـ عن الامام الصادق (عليه السلام): « رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءاً من أجزاء النبوّة »(57).
ولعلّ قوله (عليه السلام): « في آخر الزمان » إشارة إلى الحاجة إلى رأي المؤمن آنذاك، وخروج الرؤيا أو تأويلها لا يسقط حجّية السند.
ونحوه ما روي في وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمّد بن الحنفية قال: « أُضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض ثم اختر أقربها من الصواب وأبعدها من الارتياب ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ: ومن استقبل وجوه الاراء عرف مواقع الخطأ »(58) ونحو ذلك كثير منتشر في شتى الابواب.

ما هو التقليد ؟

أو مقلّداً والتقليد فيما نحن فيه كما يأتي هو: عبارة عن عمل العامي في الاحكام الشرعية بفتوى العالم بها، استناداً إلى استنباط العالم من الادلّة الشرعية، لا استناداً إلى نفس الادلّة.

التقليد والادلّة الاربعة

والتقليد بهذا المعنى يدلّ على جوازه التكليفي والوضعي ـ بالمعنى الاعمّ من الوجوب ـ أيضاً الادلّة الاربعة، مضافاً إليها بناء العقلاء، وسيرة المتشرّعة، وارتكازهم.
قال صاحب الجواهر (قدس سره) في كتاب القضاء: « وبذلك ظهر لك أنّ دليل التقليد حينئذ هو جميع ما في الكتاب والسنّة من الامر بأخذ ما أنزل الله تعالى، والقيام بالقسط والعدل ونحو ذلك »(59).
وقال أيضاً: « بل ممّا ذكرنا يظهر أنّ قبول الفتوى بعد اندراجها في الحقّ والعدل والقسط ونحو ذلك لا يحتاج إلى إذن من الامام (عليه السلام)، بل الكتاب والسنّة، بل والعقل متطابقة على وجوب الاخذ بها »(60).

الاستدلال للتقليد ـ المصطلح ـ بالقرآن الحكيم

1. أمّا الكتاب: ففي آيات عديدة منه:

آية النفر

منها قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(61).
بتقريب: وجود الملازمة العرفيّة بين: الانذار وبين: الحذر عقيبه، وليس هذا إلاّ جعلاً تعبّدياً لحجيّة إنذار المنذرين، وإلاّ فلو لم يحذر المنذَرون ـ بالفتح ـ لزم لغوية إيجاب الانذار، لانّ المقصود من الانذار الحذر، وكذلك إطلاق وجوب الحذر ـ من دون قيد بحصول العلم من الانذار ـ يفيد حجّية الانذار بما هو إنذار، لا بما هو مفيد للعلم.

مناقشات في الدلالة

أدلّة صحّة التقليد: الكتاب
وفيه مناقشات، أصحّها هو: أنّ العرف الملتفت البعيد عن المناقشات المنطقية واللغوية ونحوهما، إذا عرض عليه معنى هذه الاية لا يفهم منها تأسيس أو تشريع شيء جديد، وإنّما يفهم منها بيان طريقة تكوينية عرفية لنشر الاحكام وعمل الناس بها، وهي أن يتعلّم جماعة الاحكام ويبلّغونها لسائر الناس، وطبيعي أن يحصل الاطمئنان ـ المعبر عنه بالعلم العادي، والعلم العرفي ـ لكلّ سامع من قول أحدهم، أو اثنين منهم، وليس معنى الاية إنّه إذا كان في المنذرين أبو هريرة ـ مثلاً ـ فأنذر بشيء وجب اتّباعه لمجرد إنّه منذر.
نعم، المنذر الصادق اللهجة ـ فيما نحن فيه ـ يجب اتّباعه لا لانّه منذر، بل لانّ صدق لهجته يجعل إنذاره طريقة عرفية لتحصيل الحكم الشرعي، التي يعذر فيها مع انكشاف المخالفة للواقع ولا يعذر مع انكشاف الموافقة.
وما قيل: من أنّه مع عدم الوثاقة وصدق اللهجة لا يصدق عليهم عنوان: المنذرين، فمثل أبي هريرة وأضرابهم هم خارجون بالتخصّص لا بالتخصيص.
ففيه: تأمّل واضح، إذ: الانذار، ليس فيه للشارع اصطلاح جديد، والمعنى اللغوي المعروف يشمل الثقة وغيره، وصادق اللهجة وغيره.
وما ذكره المحقّق النائيني (قدس سره) في تقرير بحث الاُصول: من الاُمور الثلاثة التي بملاحظتها جعل دلالة الاية تامّة، وهكذا ما ذكره بعض الفقهاء من تلاميذه: من أنّ الاية أصرح دلالة على حجّية الخبر الواحد من آية النبأ. ففيهما: ملاحظات ذكرناها في الاُصول، فلا نطيل هنا.
نعم يمكن أن يقال في جواب المناقشة: بأنّ الطريقة العرفية قد أقرّها الشارع ـ كما تقدّم مثل ذلك في مسألة الوجوب في أوّل الكتاب ـ.

مناقشات أُخر

وأمّا سائر المناقشات في الاية: من أنّ الاية دلّت على قبول الانذار، لا على قبول الافتاء، وبينهما عموم من وجه، فالانذار أخصّ وأعمّ من وجه، والافتاء أعمّ وأخصّ من وجه، لانّ الانذار معناه التبليغ مع التخويف وليس هذا في مطلق الافتاء الّذي محل البحث حجّيته.
أو احتمال تقيّد وجوب الحذر بما إذا حصل العلم القطعي بصدق المنذر، أو اختصاص الاية بموارد نقل الاحاديث والاخبار الشريفة ـ كما كان ذلك دأب وديدن الصدر الاوّل ومن تأخّره من أصحاب النبي والائمّة (عليهم السلام) ـ.
وما ورد في تفسيرها مستفيضاً: من أنّ المراد بالتفقّه هو معرفة الامام بعد ارتحال الامام السابق، فلا ارتباط لها بتعلّم فروع الدين، أو نحو ذلك، فهي لا تنافي الدلالة وقد نوقشت في كتب الاُصول عند البحث عن حجّية الخبر الواحد، فلا نعيد.

آية السؤال

ومنها: قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(62) بتقريب: إنّ غير العالم يلزم رجوعه إلى العالم، وهذا هو معنى التقليد.

مناقشة الدلالة

وفيه أيضاً مناقشات: أصحّها نفس المناقشة المذكورة في الاية السابقة، وهي: أنّ الله سبحانه أراد أن يحمل اليهود على الاعتراف بالاسلام فقال لهم: إنّكم إن تقولوا لا نعلم كون: محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيّاً، فلا يحقّ لكم عدم الايمان به لمجرّد عدم علمكم بنبوّته بل يجب عليكم عقلاً أن تسألوا علماءكم الذين تعتقدون بهم عن علامات نبي آخر الزمان.
وليس معنى هذا أنّ مجرد سؤال الجاهل من العالم يجعل قول العالم حجّة لانّه عالم، بل لانّ الجاهل إذا سأل العالم الّذي يعتقد به عن شيء، يحصل له الاطمئنان، أي: العلم العادي بقوله غالباً، وذلك الاطمئنان هو الحجّة، لا قول العالم لانّه قول عالم حتى ولو حصل الشكّ العرفي في صدقه، لعدم الثقة به، أو لغير ذلك.
وهذا نظير أن ينقل شخص فتوى مجتهد، لمقلّده، فإذا لم يقتنع المقلّد يقول له: إن كنت لا تعتقد بقولي فراجع رسالة هذا المجتهد، فهل هذا القول معناه جعل الحجّية لرسالة المجتهد بما هي رسالة وإن كانت مشحونة بالاغلاط بحيث يسلب عرفاً الاعتماد عنها ؟ كلاّ، وإنّما هو لانّ الرجوع إلى الرسالة يوجب عرفاً سكون النفس والاطمئنان بفتوى المجتهد غالباً، وهكذا في آية السؤال.
والحاصل: إنّ الاية تأكيد لموضوع عرفي خارجي، لا تشريع لطريق جديد شرعي.
نعم، العالم الثقة الصادق اللهجة، يجب الاخذ بقوله، لانقطاع العذر مع مخالفته، وهذه هي أهمّ مناقشة يمكن أن تعتبر صحيحة وموجبة للاشكال في استفادة الاطلاق من هذه الاية لكن قد عرفت الجواب عنها في الاية السابقة.
وأمّا بقية المناقشات فيها: بأنّ السياق في علماء اليهود، وتأويلها في الائمّة (عليهم السلام)، وليس في شيء منهما مراجعة العامي إلى العالم.
أو معنى ذلك السؤال من أهل الذكر، حتّى تعلموا علماً خارجياً.
أو معنى ذلك حجّية قول العالم إذا سئل، لا إذا ما لم يسأل أو غير ذلك، فهي أيضاً غير تامّة ذكرت بالتفصيل مع أجوبتها في كتب الاُصول في موضوع: حجّية الخبر الواحد، فلا حاجة لذكرها هنا.

آية النبأ

ومنها قوله تعالى في آية النبأ: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(63) دلّت ـ بمفهومها ـ على حجّية قول المخبر العادل، والفقيه العادل ينبئ عن حكم الله، فيجب قبول قوله وهذا هو التقليد.
وما يقال: من أنّ الفقيه يخبر عن رأيه، يردّه: أنّه يخبر عن حكم الله ولكن بحدسه كأهل الخبرة الذين يخبرون عن القيمة الواقعية بحدسهم.
وما نوقش به في دلالة الاية على المفهوم من مناقشات كثيرة ربما بلغت النيف والعشرين ليس بشيء، لانّها مناقشات لا تصادم الظهور العرفي سوى مناقشة احتمال أن يكون « إن جاءكم » من قبيل الشرط المحقّق للموضوع مثل: إن رزقت ولداً فاختنه، فلا يكون للشرط مفهوم أصلاً، فظاهر « إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا » هو أنّ خبر الفاسق يوجب التبيّن من دون لحاظ إنّ خبر العادل يوجب التبيّن أو لا يوجب، وليس الموضوع: الخبر إن جاء به الفاسق، حتّى يكون مفهومه: الخبر إن جاء به العادل، لعدم خصوصيته.
ولا لحاظ المجيء أصلاً، وإنّما الملحوظ هو صدور الخبر عن الفاسق، فيكون مفهومه مفهوم اللقب المتسالم على عدمه بين المتأخرين.
ولعلّ هذه المناقشة هي التي ربما تصادم الظهور اللفظي، وإن كان قد يقال: بأنّ الاصل في الشرط أن يكون قيداً للموضوع لا محقّقاً للموضوع، فإذا شكّ في شرط إنّه قيد للموضوع، أو محقّق له، يحمل على القيدية، فيكون للجملة الشرطية مفهوم مطلقاً، إلاّ إذا علم أنّ الشرط فيها محقّق للموضوع، فتأمّل.

آية قبول ما أتى به الرسول

ومنها قوله سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(64) رتّب سبحانه الذمّ على الكفّار بأنّهم قلّدوا آباءهم ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون، فتدلّ ـ بمفهوم الغاية ـ على أنّه لا ذمّ إذا كان الاباء يعلمون شيئاً ويهتدون، والمجتهد العادل يعلم أحكام الله تعالى ويهتدي إليها فيجوز تقليده واتّباعه.

آية اتّباع الوحي

ومنها قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(65) وهي كسابقتها في وجه الدلالة.
وما يقال: من أنّ الايتين وأمثالهما إنّما وردت في أُصول الدين، التي لا يجوز التقليد فيها فالمراد حصول العلم، وإنّهم إنّما ذُمّوا لعدم حصول العلم لهم من قول الاباء، فكيف تدلّ على جواز التقليد في الاحكام مع خروج موردها عن هذه الادلّة ـ وخروج المورد مستهجن لا يُصار إليه في كلام الحكيم ـ ؟
ففيه: إنّه حقّق في الاُصول جواز التقليد في أُصول الدين إذا أوجب الاطمئنان والعلم العادي، ولا دليل على لزوم الاستدلال في أُصول الدين زيادة على: المعرفة التي تطلق على التقليد الموجب للجزم وسكون النفس، كما هو الغالب بل المتعارف في تقليد العوام لعلمائهم فإنّهم يجزمون، بل يقطعون بالشيء بمجرّد تفوّه العالم المجتهد به.
وما أجاب به بعض الاساتيذ: بأنّ اطلاق الايتين تامّ وإن كان خرج من الاطلاق أُصول الدين، فمنظور فيه، إذ خروج المورد عن الاطلاق مستهجن بذاته، وليس كخروج فرد آخر من الاطلاق كما هو مذكور مفصّلاً في بحوث الاُصول.

آية الامانات والعدل

ومنها قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الاَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)(66)دلّت الاية على وجوب الحكم بالعدل، وهو بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية يدلّ على وجوب قبول الحكم بالعدل، فإذا حكم المجتهد بالعدل أي: حكماً بالموازين الشرعية ـ لانّه من الحكم بالعدل ـ وجب على الناس تقليده والاخذ بحكمه، ولذا قال أبو عبدالله (عليه السلام) في رواية معلّى بن خنيس في تفسير هذه الاية: « عدل الامام أن يدفع ما عنده إلى الامام الّذي بعده، وأُمرت الائمّة بالعدل، وأُمر الناس أن يتّبعوهم »(67) فأُمر الناس باتّباعهم يستفاد عرفاً من وجوب الحكم بالعدل.

الاشكال الاوّل

إنّ الاية خاصّة بالائمّة المعصومين (عليهم السلام) بقرينة هذه الرواية « وأُمرت الائمّة بالعدل » وظاهر: « الائمّة » هم الائمّة المعصومون (عليهم السلام) ولا إشكال في وجوب اتّباع المعصومين، إنّما الكلام في غيرهم، أي: المجتهدين.

مناقشة الاشكال الاوّل

وفيه: إنّ آيات القرآن عامّة لكلّ زمان وكلّ شخص، لرواية مضمونها: « إنّما مثل القرآن مثل الشمس فكما أنّ الشمس تشرق كلّ يوم على أشخاص جديدين، كذلك القرآن » ورواية « إنما نزل القرآن بإيّاك أعني واسمعي ياجارة »(68).
ولا ينافي ذلك كون التأويل في الائمّة (عليهم السلام) ككثير من الايات التي أُوّلت بهم (عليهم السلام) أو كونهم (عليهم السلام) أظهر المصاديق، ولذا كان الحقّ المحقّق الّذي عليه المشهور: إنّ ظواهر القرآن حجّة يؤخذ بها وإن كان تأويلاتها فيهم (عليهم السلام)(69).
ويعضد ما ذكرناه: أنّ في صدر الاية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الاَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(70) ولا شك في أنّها دالّة على وجوب ردّ كلّ أمانة على كلّ أمين، مع أنّها أيضاً أُوّلت في الائمّة (عليهم السلام) كما سمعت في رواية المعلّى بن خنيس، وأنّ المراد بها ردّ ودائع الامامة للامام الّذي بعده، والسياق واحد، فكما أنّ وجوب ردّ الامانة عامّة لغيرهم (عليهم السلام)، كذلك وجوب الحكم بالعدل، ووجوب قبوله، عامّان لغيرهم أيضاً.
ويؤيّده: ما ورد في تفسير هذه الاية أيضاً مستفيضاً ومنه ما رواه الصدوق (قدس سره) في المعاني بسنده عن يونس بن عبدالرحمن قال: « سألت موسى ابن جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الاَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) فقال (عليه السلام): هذه مخاطبة لنا خاصّة، أمر الله تبارك وتعالى كلّ إمام منّا أن يؤدّي إلى الامام الّذي بعده ويوصي إليه، ثمّ هي جارية في سائر الامانات، ولقد حدّثني أبي، عن أبيه، أنّ علي بن الحسين قال لاصحابه: عليكم بأداء الامانة، فلو أنّ قاتل أبي الحسين بن علي (عليهما السلام) ائتمنني على السيف الّذي قتله به لادّيته اليه »(71).
ومنه أيضاً، عن الكافي بسنده عن عمّار بن مروان، قال: قال أبو عبدالله في وصيته له ـ: « اعلم أنّ ضارب علي (عليه السلام) بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثم قبلت ذلك منه لادّيت إليه الامانة »(72) ونحوهما غيرهما، فقوله (عليه السلام): « ثم هي جارية في سائر الامانات » والتنظير بالمثال الّذي هو في الامانات الخارجية، لا خصوص الامامة، قرينة على أنّ الامامة من باب المصداق الاكمل، لا من باب الحصر.

الاشكال الثاني

إنّ الاية وردت في الحكم بين المتخاصمين، وأين هو عن الفتوى التي هي محل الكلام ؟

مناقشة الاشكال الثاني

وفيه: إن الحكم لغة هو: الالزام، وهو مرادف للافتاء تقريباً، وأعمّ من أن يكون في خصومة أصلاً، وكذلك عرفاً وشرعاً، يقال: حكم فلان على ابنه بالدرس، حكم الزوج على زوجته بلزوم الدار، حكم المعلّم على التلميذ بحفظ القرآن، وهكذا.
قال تعالى: (وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ)(73).
(لَهُ الْحُكْمُ)(74).
(إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِِ)(75).
(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الاِْنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ)(76).
(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)(77).
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ)(78).
وقد ورد في الاحاديث: « الحكم حكمان: حكم الله عزّوجلّ، وحكم أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله، حكم بحكم الجاهلية »(79).
« إن لله جنّة لا يدخلها إلاّ ثلاثة: أحدهم من حكم في نفسه بالحقّ »(80).
« ومن حكم بحكم فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت »(81).
« على المسلم أن يمنع نفسه ويقاتل عن حكم الله وحكم رسوله »(82).
« حكم الله عزّوجلّ في الاوّلين والاخرين وفرائضه عليهم سواء إلاّ من علّة »(83).
إلى غير ذلك من الموارد التي ورد الحكم فيها بمعنى: الالزام، والافتاء، في القرآن والسنّة وهو كثير جدّاً، ويقول الفقهاء: إنّ حكم الحاكم الشرعي لا يجوز نقضه، يريدون به الاعمّ من الحكم الابتدائي، والحكم بين المتخاصمين.
مضافاً إلى أنّه على فرض اختصاص الاية بالحكم بين المتخاصمين، يتعدّى عنه إلى الحكم الابتدائي بالمناط القطعي، وهو: إنّ حجّية حكم الحاكم بين المتخاصمين ليس لانّه تخاصم، بل لانّه عارف بالحكم ـ كما هو ظاهر أدلّة الرجوع في الحكم إلى العارف بأخبار المعصومين (عليهم السلام) ـ فإذا كان حجّية قوله لاجل معرفته بالحكم، كانت هذه العلّة موجودة أيضاً في المفتي ابتداءً بلا خصومة.
إذن: فالاية دالّة على وجوب تقليد الحاكم بالعدل، والمجتهد من مصاديقه.

آية الحكم بالحقّ

ومنها قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ)(84).
والخطاب فيها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعنى: إنّا أنزلنا القرآن بالحقّ لتحكم بين الناس بما أعلمك الله من القرآن، فإذا كان نزول القرآن لكي يحكم عليه للناس كان اللازم على الناس قبول حكمه، ويتعدّى هذا الحكم عن نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سائر المجتهدين بدليلين:
الاوّل: الاُسوة، لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(85) فكلّما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو لسائر المسلمين إلاّ ما خرج بالدليل.
الثاني: سياق نفس الاية، فإنّه لو كان نزول القرآن ليحكم به شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الناس فقط، لتعطّل حكم القرآن بارتحال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم، والضرورة قائمة: على بقاء حكم القرآن مدى الدهر.
ويؤيّد ذلك: إنّ الحكم الصادر عن الادلّة المتّخذة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الاطهار (عليهم السلام) ـ بتوسّع عرفي ـ امتداد لما أرى الله نبيّه.
والاشكال بأنّه في مقام الحكم، لا الافتاء، قد عرفت الجواب عنه في ذيل الاية السابقة.

آية النهي عن التحاكم إلى الطاغوت

ومنها: قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)(86).
ومفهوم هذه الاية هو: إنّ الذين لا يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، بل يتحاكمون إلى المجتهد الّذي يفتي على الكتاب والسنّة، فهم ممّن آمنوا صدقاً بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك، وليس إيمانهم زعميّاً، فيكون تقليدهم له جائزاً صحيحاً، وإيماناً بما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما نزل من قبله.
ففي صحيح أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال: « ياأبا محمّد إنّه لو كان لك على رجل حقّ، فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلاّ أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول الله عزّوجلّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ...)(87).

إشكال وجواب

والاشكال هنا: بأنّ المفهوم للوصف، ولا حجّية له على المشهور بين المتأخّرين، فيه: إن الوصف الّذي تضمّن عرفاً معنى الشرط، له مفهوم، لقضاء العرف به، وهنا منه، فإن ظاهر الاية ـ والله أعلم ـ إنّهم إن أرادوا التحاكم إلى الطاغوت فإيمانهم بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) زعم لا واقع له، ومفهومه: إن لم يتحاكموا إلى الطاغوت فإيمانهم صدق وحقّ.
وكذا الاشكال فيه أيضاً: بأنّ الاية لا اطلاق لها من جهة حاكم العدل، والقدر المتيقّن منه هم الائمّة المعصومون (عليهم السلام) فلا دلالة في الاية على حجّية قول المجتهد للعامي، مجاب: بأنّ المجتهد الّذي يحكم على طبق القرآن والسنّة لا يسمّى طاغوتاً، ويكفي في جواز الخصومة عنده، وقبول قوله، أن لا يكون طاغوتاً، لانّ المذموم هو مراجعة الطاغوت فقط.
ويؤيّد ذلك ما ورد في صحيح أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال: « ياأبا محمّد إنّه لو كان لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلاّ أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت وهو قول الله عزّوجلّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ... )(88).
واطلاق: « حاكم أهل العدل » للفقيه الّذي يفتي على روايات أهل البيت (عليهم السلام) ظاهر لا غبار عليه.
وفي خبر أبي بصير الاخر عن الصادق (عليه السلام) أيضاً قال: « أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلاّ أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزّوجلّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ...)(89).
وظهور قوله (عليه السلام): « فدعاه إلى رجل من إخوانه » في فقهاء الشيعة، واضح جليّ.
ونحوهما غيرهما أيضاً.
وقد مرّ جواب الاشكال بأنّ الاية في مقام حجّية قوله في الخصومة لا في الافتاء الابتدائي، ويضاف إليه هنا: إن قوله تعالى: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) فيه إشارة إلى أنّ التحاكم أعمّ من فصل الخصومة، فتأمّل.

آية الولاية والطاعة

ومنها قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ)(90) وهذه الاية استدلّ بها على حجّية قول المجتهد، وجواز التقليد ـ بالمعنى الاعمّ ـ بتقريبين:

التقريب الاوّل لدلالة الاية

الاوّل: إنّ « أُولي الامر » جمع مضاف، وهو يفيد العموم، خرج منه الحكّام الجائرون بالنصّ والاجماع، وبقي الباقي وهم المعصومون (عليهم السلام) ومجتهدوا الشيعة العدول أعلى الله كلمتهم.
وقد أشكل على هذا التقريب بأنّ المراد من « أُولي الامر » هم الائمّة المعصومون (عليهم السلام) لا غير، بقرائن:
إحداها: إنّ الظاهر من « أطيعوا » المحذوف المتعلّق هو: وجوب عموم الطاعة في كلّ شيء في الاحكام والموضوعات الخارجية، وهذا النوع من الطاعة المطلقة مختصّة بالائمّة المعصومين (عليهم السلام) كما ثبت في محلّه بأدلّته.
ثانيتها: اقتران طاعة أُولي الامر بطاعة الله ورسوله يعطي وحدة نوع الطاعة لله ولرسوله، ولاُولي الامر.
ثالثتها: المستفيضة الّتي قد يدّعى تواترها معنى، وليس بالبعيد، والتي منها رواية الكافي بسنده، عن بريد العجلي، عن الباقر (عليه السلام) في حديث: « ثمّ قال للناس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ) إيّانا عنى خاصّة، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا »(91) ونحوها غيرها وهو كثير.
رابعتها: تعقيبه سبحانه ذلك بقوله: (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ)وهو يشعر بأنّ عدم طاعة أُولي الامر يخرج الشخص عن ربقة الايمان بالله واليوم الاخر، وعدم طاعة المجتهد ليس كذلك لقيام الضرورة على أنّ غير المقلد ليس خارجاً عن الايمان.

التقريب الثاني لدلالة الاية

أدلّة صحّة التقليد: السنّة
الثاني: إنّ التقليد وطاعة المجتهد العادل في الاحكام الشرعية هو امتداد لطاعة الائمّة المعصومين (عليهم السلام)، لا لقوله (عليه السلام): « وأمّا الحوادث الواقعة » وغيره من الاحاديث الارجاعية حتّى يورد عليه بأنّ الاستدلال بالاية لا بالاحاديث ـ بل لانّ المجتهد العادل يتعب نفسه في استخلاص فتاوى الائمّة المعصومين (عليهم السلام)بإخلاص، فكلّما توصّل إليه واستنتجه من الاحكام الشرعية التي اعتقد أنّها التكاليف الواصلة إلينا بطريق المعصومين (عليهم السلام) فتقليده فيها ومتابعته، والاخذ بقوله يعتبر ـ عرفاً ـ طاعة وانقياداً للائمّة (عليهم السلام)، فإن لم يكن من الانقياد اللازم، فلا شكّ إنّه من الانقياد المستحسن عند العقل والعقلاء.
ألا ترى: إنّه لو كتب مولى أوامره إلى عبيده في كتب، وجاء عبد مخلص وعادل وأتعب نفسه في استفادة مرادات المولى من تلك الكتب، ثم ذكر أنّه استفاد من كلمات المولى وأقواله أنّ أوامره كيت وكيت، كان من الانقياد والطاعة للمولى: أن يأخذ سائر العبيد بقوله ويعملوا بما رآه أنّه أوامر المولى.
وهذا التقريب يفيد دلالة الاية الكريمة على حجّية قول المجتهد العادل، لزوماً، أو جوازاً على الاقل في مقام الاطاعة والمعصية لدى العقلاء، ولا يرد عليه ما أُورد على التقريب الاوّل، إلاّ أنّه قد يورد عليه بأنّه ليس استدلالاً بالاية، بل بحجّية ما بنى العقلاء عليه في طرق الاطاعة والمعصية، فتأمّل.
ومنها: آيات أُخر، مثل آية الكتمان، وآية الاذن، وغيرهما، وفي ما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى.

الاستدلال للتقليد ـ المصطلح ـ بالسنّة الشريفة

2. السنّة: وأمّا السنّة التي استدلّ بها أو يمكن أن يستدل بها على جواز التقليد بأنحاء الدلالات المختلفة: فهي طوائف عدّة تزيد على أقل مراتب التواتر الموجب للقطع بالصدور، وربما تعدّ بالمئات.

الاخبار: الطائفة الاُولى

الطائفة الاُولى: الاخبار الدالّة على وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الشيعة التي تدلّ ـ بالالتزام ـ على حجّية فتاواهم، لانّ الرجوع إليهم أعمّ من سؤال الرواية، أو الاستفتاء.

صحيحة أحمد بن إسحاق

منها: صحيحة أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن الهادي (عليه السلام) « قال: سألته وقلت: مَن أُعامل ؟ وعمّن آخذ ؟ وقول مَن أقبل ؟ فقال (عليه السلام): العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون »(92).
فاطلاق: « ما أدّى » وكذا: « ما قال » مؤيّداً بذيله: « فاسمع له وأطع » كلّ ذلك، أو عمومه، يشمل قسمي نقل الحديث، والفتوى، ألا ترى لو أنّ أحمد بن إسحاق سأل العمري عن الشكّ بين الثلاث والاربع، فقال له العمري: ابنِ على الاربع، فعمل به، كان عاملاً بقول الامام (عليه السلام) ؟
ثمّ إنّه روي في البحار هذا الخبر عن الشيخ في كتاب الغيبة بتعبير آخر نورده إتماماً للفائدة:
قال أحمد بن إسحاق بن سعد القمّي: « دخلت على أبي الحسن علي بن محمّد صلوات الله عليه في يوم من الايام، فقلت: ياسيدي أنا أغيب وأشهد ولا يتهيّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كلّ وقت، فقول مَن نقبل ؟ وأمر مَن نمتثل ؟ فقال لي صلوات الله عليه: هذا أبو عمرو الثقة الامين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه، فلمّا مضى أبو الحسن (عليه السلام) وصلت إلى أبي محمّد، ابنه: الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) ذات يوم، فقلت له مثل قولي لابيه، فقال لي: هذا أبو عمرو الثقة الامين، ثقة الماضي وثقتي في الحياة والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّيه »(93).
ولعلّ هذه التعبيرات أوضح دلالة على التعميم للفتوى ممّا مضى، والله العالم.

رواية ابن يقطين

ومنها: رواية الحسن بن علي بن يقطين، عن الرضا (عليه السلام) قال: «قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم»(94).
ومن الواضح أنّ أخذ معالم الدين يكون بالسؤال عن الرواية، والاستفتاء، كما إنّ هذه الرواية تدلّ على المفروغية عن الكبرى، وهي: حجيّة قول الثقة في نظر الحسن بن عليّ بن يقطين، وإنّما سأل الامام (عليه السلام) عن الصغرى، وإنّ يونس بن عبدالرحمن هل هو مصداق للكبرى وثقة أم لا؟ والامام أقرّه على الكبرى.

رواية الهمداني

ومنها: رواية عليّ بن المسيّب الهمداني قال: « قلت للرضا (عليه السلام): شقّتي بعيدة ولست أصل اليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني ؟ قال (عليه السلام): من زكريا بن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا، قال عليّ بن المسيّب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريّا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه»(95).

حسنة ابن المهتدي

ومنها: حسنة عبدالعزيز بن المهتدي، قال: « قلت للرضا (عليه السلام): إنّ شقّتي بعيدة فلست أصل إليك في كلّ وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين ؟ قال (عليه السلام): نعم »(96).

التوقيع الشريف بالارجاع إلى الفقهاء

ومنها: التوقيع الشريف عن صاحب الزمان ـ عجل الله تعالى فرجه وجعلنا من أنصاره والتابعين له ـ إلى اسحاق بن يعقوب: « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله »(97).
والارجاع إليهم بإطلاقه يشمل أخذ الفتوى عنهم.
والاشكال فيها بأنّ لام: « الحوادث » للعهد، ولا أقل من احتمال ذلك، فلا يكون فيها عموم، يدفعه: إنّ الظاهر من اللام في مثل المقام الاستغراق، وكونه للعهد يحتاج إلى قرينة لا يصار إليه إلاّ بدليل أظهر، مضافاً إلى أنّه الاصل فيها ـ كما حقّقناه في روايات الاستصحاب من الاُصول ـ.
واحتمال قرينية شيء ساقط عن الرواية أو غير مذكور من أجل تقطيع الاحاديث لذكر كلّ قطعة في بابها المناسب لها، مدفوع بالاصل. فضلاً عن القطع بالقرينية الّذي ادّعاه المحقّق العراقي حيث قال: «نظير الحوادث الواقعة المعلوم اقترانها بما يصلح للقرينية، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال للتمسّك بالاطلاق»(98).
وذلك لعدم العلم، والاحتمال مدفوع بالاصل العقلائي ظاهراً في مثله، مع أنّ التعليل بـ: «أنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» يقتضي العموم.

مناقشات وردود

والمناقشة في السند بإسحاق بن يعقوب ومحمّد بن محمّد بن عصام، لعدم توثيق لهما، تقدّم تفنيدها، وأمّا في الدلالة بأنّ الارجاع إنّما هو إلى الرواة، لا إلى المجتهدين، يدفعها ما يلي:

الردّ الاوّل

أوّلاً: بأنّ المجتهدين من أظهر مصاديق الرواة، فهم رواة وزيادة واجتهادهم عن الروايات لا يخرجهم عن كونهم رواة.
أترى لو أنّ الرجل سأل الكليني (قدس سره) عن المذي، فقال له الكليني (قدس سره): هو طاهر وعمل الرجل بقوله أفلا يكون مصداقاً للتوقيع الشريف ؟ أوليس قد رجع في حكم الحادثة إلى رواة الحديث ؟ فهل يجب أن ينقل الكليني ـ في الجواب عن المسألة ـ رواية حتّى يصدق أنّ الرجل رجع إلى الرواة وإلاّ لا يصدق ؟
وكذلك المجتهدون رواة ينقلون للناس ما استفادوه من الروايات في الحوادث الواقعة.

الردّ الثاني

وثانياً: بعدم الفرق فيما لو سأل زيد وعمرو مجتهداً عن المذي، فقال لزيد: هو طاهر ونقل لعمرو رواية وقال له: في الحديث إنّه «ليس به بأس»(99) فهل رجوع عمرو إلى المجتهد من الرجوع إلى الرواة، وليس رجوع زيد رجوعاً إلى الرواة ؟

الردّ الثالث

وثالثاً: بأنّ تعليل الامام (عليه السلام) بقوله: « فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله » دليل على عمومه لنقل الرواية والفتوى، إذ « الحجّة » لا تنحصر فيمن ينقل متون الاحاديث، بل إنّ شمول « الحجّة » للمجتهدين الّذين ينقلون متون الاحاديث مع بيان مراداتها أولى.
ثمّ المقابلة بين: « فإنّهم حجّتي » وبين « وأنا حجّة الله » يعطي ذلك أيضاً، فهل كان الامام (عليه السلام) حينما يسأل عن المسائل ينقل عن الله آية أو حديثاً قدسيّاً في الجواب أم كان ديدنه، وديدن أجداده الائمّة (عليهم السلام) أنّهم يفتون في جواب المسائل، فكما أنّ الامام حجّة الله، وليس معناه أن ينقل عن الله نصّاً، كذلك الرواة حجّة الامام، وليس معناه أن ينقلوا عن الائمّة (عليهم السلام) نصوص الروايات، والتفريق بين الحجّتين ـ في معنى الحجّية ـ للفرق بين مورديها، بلا فارق ظاهراً.

الردّ الرابع

ورابعاً: بأنّه لو لم يجز الرجوع في الاجتهاديات، لايماء « رواة حديثنا » بالرجوع لسماع نصّ الحديث، لكان في فقرة: « الحوادث الواقعة » كفاية في العموم، إذ لا شكّ إنّ كل الحوادث الواقعة ليس في الروايات جزئياتها، فتأمّل.
مضافاً إلى أنّ معنى: « الحجّة » لغة وعرفاً هو المعتبر قوله، سواء نقل عن غيره شيئاً أو أفتى عن نفسه ما استفاده من كلام مولاه، فلو قال زيد لعبيده: ابني حجّتي عليكم، كان معناه: إنّ كلّ ما يأمركم به وينهاكم عنه ابني فهو معتبر عندي، ويشمل عرفاً ذلك أن يقول الابن للعبيد: قال أبي: اصنعوا الغذاء الفلاني، أو يقول ـ بدون قال أبي ـ: اصنعوا الغذاء الفلاني، ولو عصى العبيد، ولم يأتمروا حينما أمر الابن ـ بدون نقل عن أبيه ـ كان للمولى معاقبتهم، والاعتذار بأنّه لم ينقل الابن عن المولى شيئاً ليس بنافع عرفاً.
وكذلك يقال: فلان حجّة في النحو، أو حجّة في اللغة، معناه: إنّ كلّ ما يقوله في النحو أو اللغة معتبر، سواء نقل عن سيبويه النحوي، أو الطريحي اللغوي شيئاً، أو لم ينقل عن أحد، ولكن قال: الفاعل يجب رفعه، أو: الصعيد مطلق وجه الارض، وهكذا.

رواية الاحتجاج

ومنها: رواية الاحتجاج عن تفسير الامام العسكري (عليه السلام) قال: قال الصادق (عليه السلام): في حديث طويل: « وكذلك عوام أُمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبيّة الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، إلى أن قال (عليه السلام): فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم »(100)تدلّ بمفهوم الحصر المستفاد من تقسيم الفقهاء إلى قسمين على أنّ الفقيه الّذي ليس له فسق ظاهر، وعصبية شديدة، وتكالب على حطام الدنيا، يجوز تقليده.
وفي فقرة أُخرى من نفس هذه الرواية الطويلة: « فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لامر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه ».
وفي فقرة ثالثة منها أيضاً: « فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً ولا كرامة » تدلّ بالمفهوم العرفي على قبول قول المجتهد الّذي لم يركب مراكب فسقة فقهاء العامّة.
وفي بعض فقرات أُخر من الرواية دلالات وإشارات على المقصود لم نذكرها لطولها.
ونوقش في هذه الرواية سنداً ودلالةً:

مناقشة رواية الاحتجاج سنداً

أمّا سنداً: فبأنّ التفسير لم تثبت صحّة نسبته إلى الامام العسكري (عليه السلام)، لانّ الناقل للتفسير هو يوسف بن محمّد بن زياد، وعليّ بن محمّد بن يسار، وهما مجهولان، وما روي في توثيقهما فطريقه هما بأنفسهما، والاعتماد عليه دوري.

ردّ المناقشة السندية

وفيه: أنّه لا يبعد القول بحجيّة التفسير لاعتماد كثير من أساطين الحديث والفقه عليه، والنقل عنه، ونسبته إلى الامام (عليه السلام) قديماً وحديثاً من أمثال الصدوق (قدس سره) في: من لا يحضره الفقيه، الّذي ضمن ما فيه وقال: « إنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي... وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعوّل وإليها المرجع » وفي « العلل »، و « الامالي » وغيرهما وكذلك رواه عن الصدوق (قدس سره)جمع من أساطين الدين كالمفيد، والطوسي، والشيخ الطبرسي في الاحتجاج، والراوندي في: الخرائج، وابن شهر آشوب في: المناقب، والمحقّق الكركي، والشهيد الثاني، والحبرين: المجلسيّين، والمحقّق الوحيد البهبهاني، والبحراني في: الفوائد النجفية، والمولى محمّد جعفر الخراساني في اكليل الرجال، والحرّ العاملي في: الوسائل، والمحدّثين: الجزائري والتوبلي، وتلميذ الشهيد الاوّل الحسن بن سليمان الحلّي، والشيخ الحويزاوي صاحب: نور الثقلين، وأبي الحسن الشريف، والعَلَم النحرير الحاج ميرزا حسين النوري، وجمع ممّن عاصرناهم، وقد يستظهر من الشهيد والمحقّق الثانيين كون التفسير وراويه في غاية الاعتبار.
وهذا المقدار كاف في السيرة العقلائية للاعتماد على مثل هذا التفسير، وليس في المقام إشكال سوى تضعيف العلاّمة (قدس سره) للتفسير ولراويه، ووجود بعض القصص الغريبة فيه، قال في الخلاصة ـ عن محمّد بن القاسم راوي التفسير ـ: « ضعيف كذّاب، روى ـ يعني الصدوق (قدس سره) ـ عنه تفسيراً يرويه عن رجلين مجهولين: أحدهما يعرف بيوسف بن محمّد بن زياد، والاخر بعليّ بن محمّد بن يسار، عن أبيهما، عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، والتفسير موضوع عن سهل الديباجي، عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير »(101).
مضافاً إلى أنّ المعظم من فقهائنا المعاصرين والمقاربين لا يعتمدونه، ولذلك فالتردّد والشكّ قائم.
ويجد الباحث التفصيل حول التفسير المذكور في خاتمة مستدرك الوسائل(102).
وشرّاح العروة والمصنّفون المعاصرون بين مصحّح ومضعّف ومتردّد، والله العالم.
ثمّ إنّ هذا كلّه هو البحث في هذا التفسير الموجود الان والمطبوع المنسوب إلى الامام العسكري (عليه السلام).
وهناك كتاب آخر في التفسير منسوب إليه (عليه السلام) لم يعثر عليه يقال: إنّه في مائة وعشرين مجلّداً(103).

مناقشة رواية الاحتجاج دلالةً

مناقشة رواية الاحتجاج دلالةً
وأمّا دلالة: فبأنّ الفقرة الثانية وقعت في الرواية بين الفقرتين الاُولى والثالثة، ودلالتهما بالمفهوم، ودلالة الثانية بالمنطوق، والفقرتان الاُولى والثالثة بالمفهوم تدلاّن على ما نطقت به الفقرة الثانية، والفقرة الثانية لا دلالة لها، فلا دلالة للرواية على لزوم التقليد على العامي أصلاً، وذلك لانّ لام « فللعوام » رخصة وجواز، لا لزوم فيه، كما يقال ـ مثلاً ـ: إذا صار المغرب في شهر رمضان فللناس الافطار.

ردّ المناقشة الدلالية

ردّ المناقشة الدلالية
وفيه أوّلاً: اللام هنا بمعنى على، نظير اللام في قوله تعالى: (يَخِرُّونَ لِلاَْذْقَانِ سُجَّداً)(104).
وقوله سبحانه: (دَعَانَا لِجَنْبِهِ)(105).
وقوله عزّوجلّ: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)(106).
وقوله تعالى أيضاً: (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)(107).
وقول الشاعر: « فخرّ صريعاً لليدين وللفم ».
إلى غير ذلك من الامثلة، ومجيء اللام بمعنى: على، غير عزيز، والمتبادر إلى الذهن ـ غير المشوب بهذه الشبهات ـ هو كون اللام بمعنى: على، أي: فعلى العوام أن يقلّدوه.
وثانياً: يمكن أن يكون اللام لدفع توّهم الحظر من قبيل قوله تعالى: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)(108).
وقوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ)(109).
ونحوهما، وذلك في مقابل عدم جواز تقليد فسقة الفقهاء.
وثالثاً: إنّ الكلام ليس في وجوب التقليد، وإنّما هو في جوازه مقابل الاخباريين، وبعض علماء حلب، الذين حرّموا التقليد.
ورابعاً: بعد عدم تمكّن العامي من الاجتهاد والاحتياط يتعيّن عليه التقليد، ولا يجوز له تركه، فالجواز أعمّ من الوجوب.
والحاصل: إنّ الحديث الشريف حجّة دلالةً بما يقطع العذر عرفاً وإن أشكل فيه سنداً.

الاخبار: الطائفة الثانية

الطائفة الثانية: الاخبار الدالّة على جواز الافتاء الملازم عرفاً لجواز الاخذ به وتقليد الغير له.

رواية عطيّة العوفي

منها: قول الامام الباقر (عليه السلام) لعطيّة العوفي ـ كما في الرواية ـ: « اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإنّي أُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك »(110) فلو لم يجب للمستفتي العمل بالفتوى، كانت لغواً والامام (عليه السلام) لا يأمر بالّلغو.

صحيح معاذ النحوي

ومنها: صحيح معاذ بن مسلم النحوي ـ على الاصحّ من صحّة إبنه أيضاً ـ عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: « بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس ؟ قلت: نعم، وأردت أن أسالك عن ذلك قبل أن أخرج: إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء فإذا عرّفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجيء الرجل أعرفه بمودّتكم وحبّكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال لي: اصنع كذا فإنّي كذا أصنع »(111).
والرواية باطلاقها تشمل الافتاء ونقل الرأي: المستنبط من أقوالهم (عليهم السلام)، بل كلمة: « فتفتي » شبه صريحة في ذلك، وأيضاً: « فأُدخل قولكم » يعمّ نقل الخبر والافتاء، وصدق مثل هذه الرواية ـ عرفاً ـ لمثل المجتهدين في العصر الحاضر، الذين يستفتيهم الناس، ويفتونهم لعلّه ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.
وعن رجال الكشي، عن محمّد بن مسعود، عن أحمد بن منصور، عن أحمد بن الفضل الكناسي قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام): « أيّ شيء بلغني عنكم ؟ قلت: ما هو ؟ قال (عليه السلام): بلغني أنّكم أقعدتم قاضياً بالكناسة، قال: قلت: نعم جعلت فداك رجل يقال له: عروة القتات، وهو رجل له حظّ من عقل نجتمع عنده فنتكلّم ونتساءل، ثم يردّ ذلك إليكم. قال: لا بأس »(112).
وظاهر « يردّ ذلك إليكم » الاعمّ من نقل الرواية أو الافتاء المستنبط من الروايات.

الاخبار: الطائفة الثالثة

الطائفة الثالثة: الاخبار الناهية عن الافتاء بغير علم وارد عن المعصومين (عليهم السلام)، الدالّة بمفهومها على جواز الافتاء مستنداً إلى ورود الحكم عنهم (عليهم السلام)، وجواز هذا يلازم جواز العمل به عرفاً كما سبق.

صحيحة أبي عبيدة

منها: صحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام): « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه »(113).

مرسلا الكافي وقرب الاسناد

ومنها: ما في مرسل الكافي عن الامام الباقر (عليه السلام): « من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم »(114).
وعن قرب الاسناد بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: « من أفتى الناس برأيه فقد دان بما لا يعلم »(115).
مرسلا العوالي ومنية المريد
ومنها: ما في المستدرك، عن عوالي اللئالي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حديث: « ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ، والمحكم من المتشابه، فقد هلك وأهلك »(116).
وفي منية المريد للشهيد الثاني (قدس سره) قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): « من أفتى بفتيا من غير تثبت ـ وفي لفظ: بغير علم ـ فإنّما إثمه على من أفتاه »(117).
وهذا وإن كان مفهوم وصف، وهو غير حجّة على المشهور، إلاّ أنّ تردّده بين اثنين يجعله ذا مفهوم عرفاً، نظير النهي عن شرب الماء واقفاً بالليل، فتأمّل.
ومثل الاحاديث الواردة بهذه المضامين في النهي عن القياس، والاستنباطات الظنّية، والاستحسانات، والافتاء بالرأي، ممّا تدلّ بمفهومها على جواز الافتاء بما ورد عنهم (عليهم السلام)، وبالعلم، وبالتثبّت، وبغير الرأي، وهو يعلم الناسخ من المنسوخ، ونحو ذلك، الملازم ذلك كلّه ـ عرفاً ـ لجواز العمل به، وكتاب القضاء من الوسائل، والمستدرك، ومقدّمات كتاب جامع أحاديث الشيعة، فيها غنيمة باردة بطائفة من أمثال هذه الاحاديث، التي هي فوق أدنى التواتر قطعاً، ويوجب العلم الّذي لا يشوبه ريب لجواز تقليد المجتهد الجامع للشرائط، الاخذ علمه من روايات المعصومين (عليهم السلام)، وإن كان بعضها، أو معظمها ممّا خدش فيه البعض واحداً واحداً، سنداً أو دلالة، ولكنّ المجموع من حيث المجموع يورث العلم بلا ريب.
فلا وجه لما نقله بعض المعاصرين عن بعض مشايخه المحقّقين: من الاشكال في شمول دلالتها للتفقّه بإعمال النظر، وهذا الاشكال إن كان ربما وجّه في دلالة: آية النفر، فلا يوجّه فيما نحن فيه، كما هو ظاهر.

الاستدلال للتقليد ـ المصطلح ـ بالاجماع

أدلّة صحّة التقليد: الاجماع
3. الاجماع: قائم على جواز التقليد من وجهين:

الاجماع القولي

الوجه الاوّل: الاجماع القولي، وقد نقله جمع.
وأشكل بأنّه محتمل الاستناد، بل مقطوعه ـ كما ربما ادّعي ـ لما تقدّم من الايات والاخبار.
وفيه: إنّه ربما يقال: بصحّة الاستناد إلى الاجماع المحتمل الاستناد بما حاصله: إنّ الادلّة الشرعية ـ على المبنى المشتهر بين المتأخرين خصوصاً المعاصرين ـ ليست إلاّ منجّزات ومعذّرات عرفية، فما كان عرفاً منجّزاً أو معذّراً، صحّ الاستناد إليه في مقام صدق الاطاعة والمعصية عرفاً، وإجماع فقهاء الشيعة إذا قام على حكم كان ذلك ـ عرفاً ـ موجباً لتنجّز مضمونه إذا طابق الواقع، ومعذّراً إذا خالفه.
غاية ما يقال فيه: إنّ الاجماع المحتمل الاستناد فرع حجّية تلك الادلّة التي احتمل استناد الاجماع إليها، وتلك الادلّة إن تمّ صدورها ودلالتها فهي المنجّزة والمعذّرة لا الاجماع، وإن لم يتم صدورها أو دلالتها فما لا يثبته الاصل، لا يثبته الفرع بطريق أولى، ولكنّه مخدوش.

الاجماع والجبر السندي

وإنّما هو مخدوش، لانّ الصدور والدلالة، كلاهما يجبران بالاجماع، أمّا الصدور: فظاهرٌ مشهورٌ بين الفقهاء في كتبهم الفقهية والاُصولية.
وما أصرّ عليه بعض مراجع العصر تبعاً لصاحب المدارك (قدس سره): من عدم جبر السند بالاجماع، بل بالغ في الانكار حتّى عبّر عنه بالحجر في جنب الانسان(118)، لا توافقه سيرة العقلاء، المتّبعة في طرق الاطاعة والمعصية ـ كما يبدو لنا وتقدّم ويأتي بعض التقريب له ـ.

الاجماع والجبر الدلالي

وأمّا الدلالة: ففي الاُصول: صرّح بعضهم بجبرها بالاجماع أيضاً إذا كان اللفظ مجملاً ووهنه بالاجماع أيضاً إذا كان ظاهراً في شيء وتمّ الاجماع على خلاف ظاهره.
وفي الفقه: عمل عامّة المتأخرين تبعاً لسلفهم المتقدّمين (قدس سرهم) على الجبر والوهن إلاّ النادر ممّن اضطربت كلماته في الموارد، وتخالفت أقواله في المسائل.
ووجه ذلك: إنّه لو رأينا رواية صحيحة السند ولكن كان في دلالتها على الحكم قصور من إجمال أو نحوه، وقام إجماع على ذلك الحكم، فلو تركنا الرواية لقصور الدلالة، وطرحنا الاجماع لاحتمال استناده إلى تلك الرواية، مع ما في المجمعين من فطاحل وأساطين وأعيان اجتمع فيهم دقّة النظر والتقوى الشديدة، من أمثال الكليني، والصدوق، والمفيد، والطوسي، والمحقّق، والشهيدين، وكاشف الغطاء، وبحر العلوم، والمقدّس الاردبيلي، والشيخ الانصاري، والمجدّد الشيرازي، والشيخ محمّد تقي الشيرازي، وغيرهم من كبار فقهائنا (قدس سرهم)، فإن ظهر واقعاً صحّة ذلك الحكم لم يكن لنا عرفاً معذّر، كما إنّا إن استندنا إلى هذا الاجماع، ثم ظهر واقعاً عدم صحّة الحكم كان ذلك معذّراً عرفاً.
أو بالعكس: كما لو كان دليل لفظي مطلقاً أو عامّاً ولم يكن له مقيّد أو مخصّص لفظي سوى فهم الفقهاء جميعاً عدم شمولهما لبعض الجزئيات، فهل الاخذ بالعموم أو الاطلاق التارك لفهم الفقهاء قديمهم وحديثهم يكون معذوراً عند الاصابة ومنجّزاً عليه عند الخطأ عرفاً ؟ والعرف ببابك، فاختبر نفسك بما إذا صدر أمر من السلطان بلزوم حضور الحكّام بحضرته يوم الاضحى ـ مثلاً ـ ثم رأى حاكم من حكّام أحد البلدان نصّ الامر فلم يفهم منه الوجوب ولكنّه رأى جميع الحكّام متّجهين إلى حضرة السلطان، وحضر الجميع عند السلطان إلاّ هذا الحاكم، فهل العقل والعرف يريانه معذوراً إذا كان الامر كما فهم الحكّام ؟ وهل يقبل عذره بأنّه لم يفهم من الامر ذلك، مع إنّه رأى جميع الحكّام فهموا منه ذلك ؟
فإن وجدت من نفسك معذورية هذا الحاكم وصحّة عمله كان طرح الاجماع المحتمل الاستناد أيضاً كذلك، وإن كان العكس فالعكس.

تأييد وتسديد

وممّا يؤيّد ذلك: ظهور العسر والضرر والحرج في الاطلاق الشامل لكلّ المحرّمات حتّى الزنا واللواط والسحق ونحوها مع أنّ الفقهاء لم يفهموا هذا الشمول، فهل يصحّ لفقيه ـ لدى العرف والعقلاء ـ أن يفهم الاطلاق الشامل لامثالها ويفتي بجواز اللواط والزنا ـ والعياذ بالله تعالى ـ إذا كان حرجاً على الرجل أو المرأة الصبر عنهما، لمجرّد أنّ أدلّة الضرر والحرج مطلقة ولا مقيّد لها بغير الزنا واللواط ؟ خصوصاً وبعض هذه المطلقات والعمومات آب عند التقييد والتخصيص ـ كما قيل (119).

نماذج وشواهد

ثمّ إنّ معظم أصحاب الكتب الفقهية من السابقين واللاحقين (قدس سرهم) يجبرون ضعف الدلالة بفهم الفقهاء، ويوهنون قوّة الدلالة بعدم فهمها عند الفقهاء، وكتاب الجواهر، وغيره مليئة بذلك، ولنذكر نماذج لذلك من هذا الكتاب، دفعاً لما لعلّه أصبح في زماننا من المتسالم عليه عند بعضهم من عدم جبر الدلالة ولا وهنها بموافقة ومخالفة الاصحاب:
منها: في المندوب من الوضوء قوله: « والوهن في الدلالة مجبور بفتوى كثير من الاصحاب »(120).
ومنها: في تغيّر الماء من حمل الغلبة في الروايات على خصوص التغيّر بقوله: « وأيضاً بقرينة الشهرة ونحوها تحمل الغلبة على إرادة التغيّر»(121).
ومنها: في ماء الحمّام قال: « وما كان في هذه الروايات من ضعف في السند أو الدلالة فهو منجبر بما سمعت من الاجماع المنقول بل المحصّل...»(122).
ومنها: ما في ماء الغسالة من قوله: « ولعلّ إمكان ذلك إنّما هو من جهة الاجماع الجابر لفهم ذلك من الاخبار »(123).
ومنها: موارد عديدة نعرض عن ذكرها لئلاّ يطول بنا الحديث(124).
هذا ما عثرت عليه في هذه العجالة، ويكفي هذا المقدار للدلالة على أنّ مشارب الفقهاء المختلفة، مجتمعة ـ كثير منها ـ في الفقه على الجبر والوهن الدلاليين بالاجماع، بل بالشهرة أيضاً على الوفاق والخلاف.

هنا إشكالات
الاشكال الاوّل

والاشكال: بأنّ مرجع الجبر والوهن الدلاليين إلى تقييد حجّية الظواهر أو ظهورها بما إذا لم يوهن بمخالفة المشهور، وحصر إجمال المجمل ـ موضوعاً أو حكماً ـ فيما لم يجبر بعمل المشهور، ومعنى ذلك: عدم حجّية الظواهر مطلقاً وخروج المجمل عن الاجمال، غير وارد، بعد أن كان عمدة الدليل لظهور الظواهر وحجيّتها بناء العقلاء.
والوجدان حاكم بأنّ بناء العقلاء ليس مطلقاً، بل محصور بما لم يفهم المشهور من أهل الخبرة العدول خلافها، و بعد أن كان عمدة الدليل لعدم حجّية المجمل مستنداً إلى عدم بناء من العقلاء على حجّيته وحكومة الوجدان بأنّ عدم الحجّية ليس مطلقاً، بل هو مادام لم يفهم المشهور من أهل الخبرة الثقات منه شيئاً معيناً، والمسألة جديرة بالتأمّل التامّ، والله العاصم.

الاشكال الثاني

والاشكال: بأنّ هذا سدّ لباب الاجتهاد، إذ كلّ مسألة لا تخلو من فتوى المشهور فيها على طرف من أطرافها، وكلّ فقيه يجب عليه متابعة المشهور، غير تامّ لما يلي.
أوّلاً: بأنّ المشهور ذهبوا إلى الجبر والوهن الدلاليين ـ ممّا تقدّم كلمات بعضهم آنفاً ـ ولم يستلزم سدّ باب اجتهادهم، بل مثل صاحب الجواهر، والشيخ الانصاري، والمحقّق العراقي من فحول المجتهدين وكبار الفقهاء كان فيهم.
وثانياً: بأنّا أبناء الدليل، وحيثما مال نميل، فما دام دليل الحجّية وعدمها بناء العقلاء وعدمه، وما دام البناء وعدمه ـ في طرفي الجبر والوهن ـ محصور، فكيف نطلقه نحن ؟
وثالثاً: بأنّ الكثير من المسائل الفرعية ليست فيها شهرة مقابل الشذوذ، أو لم تحرز فيها ذلك، والمتتبّع للفقه يجد ذلك عياناً.

الاشكال الثالث

والاشكال: بأنّ معنى ذلك حجّية الشهرة بنفسها كدليل مستقل، وليس المبنى كذلك، غير صحيح، إذ لا تلازم بين الامرين، كالظنون التي ليس كلّ واحد منها حجّة برأسه، ولكن إذا اجتمعت أورثت الاطمينان وكانت حجّة وكذلك الاطمينان حجّة برأسه ولكن إذا شكّك مشكّك فيه، ينقلب إلى الظنّ ويسقط عن الحجّية، فتأمّل.
أدلّة صحّة التقليد: الاجماع
ونقل عن بعض تلاميذ المجدّد الشيرازي (قدس سره): إنه كان يمثّل لجبر الدلالة ووهنها بالاجماع، بل بالشهرة أيضاً، بما إذا حضر شخص سفرة طعام، وكان فيها طعام حسن المنظر جيّد الظاهر، إلاّ أنّه رأى المجتمعين على تلك السفرة وكلّهم عقلاء وحكماء تركوا ذلك الطعام مع ما بهم من شدّة الجوع، وأقبلوا على أكل طعام لا حسن في منظره، ولا جودة في ظاهره، وكلّما تأمّل هذا الشخص في سبب إعراضهم عن الطعام الجيّد الظاهر، والاقبال على ما لا جودة في ظاهره لم يظهر له وجهه، ومع ذلك فإنّه لو أقدم على الاكل من الطعام الجيّد الظاهر، وأصابه مرض أو سوء منه، ألا يلام لدى العقلاء بأنّك رأيت أهل الخبرة من الحكماء العقلاء يتركونه فلماذا أكلت منه ؟ ولو أصابه مرض أو سوء من تركه وأكل ذلك الطعام غير الجيّد الظاهر، ألا يكون معذوراً لدى العقلاء لمتابعة أهل الخبرة فيما لم يظهر له وجهه ؟
نعم، إنّنا لا ندّعي كون الجبر والوهن الدلاليين أقوى من كلّ الادلّة، بحيث إنّه حتى لو علم الشخص خطأ الفقهاء في الفهم وجب مع ذلك اتّباع فهمهم أيضاً، بل إنّنا ندّعي ـ وفاقاً لعامّة الفقهاء إلاّ من شذّ ـ كونهما من طرق الاطاعة والمعصية، والله العالم.
وقد فصّلنا الكلام عن ذلك في مباحث الاُصول.

الاجماع العملي

الوجه الثاني: من وجهي الاجماع على جواز التقليد: الاجماع العملي أو سيرة الفقهاء، وتقريره: إنّا نرى عمل الفقهاء طرّاً من زمن الغيبة إلى زماننا هذا وقد استقرّ بناؤهم، واستمرّ ديدنهم على أن يسألوا عن مسألة لا يعرفونها عمّن يعرفها من الثقات من غير نكير من أحد، وحتّى جمع من الاخباريين الذين اعتبروا معارضي التقليد ومحرّميه نراهم إذا سألهم العوام عن مسائل شرعية أجابوهم بأجوبتها، ولم ينكروا على العامي السؤال، ولم ينكر بعضهم على بعض إجابة المسؤول عنه للسائل، مع أنّه لو لم يجز كان اغراءً بالجهل، وهل التقليد ـ بمعناه العرفي ـ إلاّ هذا ؟
والاشكال في كلا قسمي الاجماع بأنّه ليس تعبديّاً كاشفاً عن رضى المعصوم (عليه السلام)، ممّا لا يقتضيه التأمّل التامّ في مثل هذه المسألة.
فإنّ حدس موافقة المعصوم (عليه السلام) ـ الّذي هو مبنى المتأخرين غالباً ـ ملاكه اتّفاق الكلّ مطلقاً، الحاصل فيما نحن فيه.

الاستدلال للتقليد ـ المصطلح ـ بالعقل

4. العقل: وهو يدلّ على جواز التقليد، لدعوة العقل كلّ جاهل في شيء إذا احتاجه أن يرجع إلى العالم بذلك الشيء، فالذي يبني داراً ويجهل البناء يدعوه عقله إلى مراجعة البنّاء، والّذي يريد سلوك طريق وهو جاهل بها يدعوه عقله إلى مراجعة العارف بذاك الطريق، وهكذا المكلّف الّذي وجب عليه طاعة الله، وتحصيل الاحكام للعمل بها يدعوه عقله إلى أن يراجع العالم بالاحكام الشرعية، واطباق العقلاء كافّة في كلّ زمان ومكان على ذلك واستمرار بنائهم عليه، خير شاهد على ذلك، فإنّه يكشف عن حكم العقل بذلك.
ومن خدش في دلالة الايات والاخبار والاجماع على التقليد فلا مجال له في أن يخدش في هذا، حتّى قيل: إنّه الدليل الوحيد للتقليد، السالم عن المناقشات.
أدلّة صحّة التقليد: بناء العقلاء والسيرة

الاستدلال للتقليد ـ المصطلح ـ ببناء العقلاء

5. وأمّا بناء العقلاء: فقد استقرّ على مراجعة الجاهل بالاحكام الشرعيّة إلى العالم بها ـ شأنه في ذلك شأن مراجعة أيّ جاهل بأيّ أمر إلى العالم بذلك الامر ـ وليس التقليد سوى هذا، ومدرك حجّية هذا البناء العقلائي لنا ـ كما مرّ في بحث حجّية الاجتهاد ـ أمران على سبيل منع الخلو:
أحدهما: إنّ التقليد من طرق الاطاعة والمعصية، ولا شكّ كما لا خلاف على الظاهر في أنّ المرجع في طرق الاطاعة والمعصية هو: بناء العقلاء، ما لم يردع الشارع عنه ردعاً خاصاً، لعدم وجود ردع عام كما حقّق في الاُصول.
ثانيهما: إنّ الظاهر اتّصال هذا البناء بعصر المعصومين (عليهم السلام) وعدم ردعهم عنه دليل حجّيته، فيدخل في السنّة الشريفة من جهة تقرير المعصوم (عليه السلام).
وبعبارة أُخرى: هو السيرة المستمرّة للمتقدّمين.
وقد اعتبره بعضهم أقوى أدلّة حجّية العديد من الحجج الشرعية مثل حجّية الاجتهاد، وحجّية التقليد، وحجّية الظواهر، وحجّية الخبر الواحد، وغيرها من الاُصول المسلّمة في أُصول الفقه، وفروعه.
وقد يقال: بحجّية هذا البناء العقلائي، حتّى مع عدم إحراز اتّصاله بعصور المعصومين (عليهم السلام)، وعدم إحراز تقريرهم له، بما سنذكر إجماله في سيرة المتشرّعة إن شاء الله تعالى.

الاستدلال للتقليد ـ المصطلح ـ بسيرة المتشرّعة

6. وأمّا سيرة المتشرّعة: فقد استقرّت ـ صغرى ـ على رجوع الجاهل بالاحكام الشرعية إلى العالم بها، خلفاً بعد سلف، حتّى اتّصلت بعصور المعصومين (عليهم السلام)، من غير ردع منهم (عليهم السلام) لها، وهذا يكشف عن رضاهم بهذه السيرة، الموجب ذلك لدخولها في السنّة بطريقة اللّم من كشف العلّة من معلولها، وقد حقّق في الاُصول حجّية مثل هذا البناء بهذين الشرطين: الاتّصال بعصور المعصومين (عليهم السلام)، ورضاهم بها، ولا إشكال في السيرة المتشرّعية مع هذين الشرطين، وقد تطابقت كلمات الفقهاء المتقدّمين والمتأخرين منهم (قدس سرهم) على ذلك في شتّى أبواب الفقه وفي مختلف المسائل الشرعية.
إنّما الكلام في حجّية السيرة المتشرّعية مطلقاً حتّى مع عدم إحراز الشرطين ـ لا مع إحراز العدم كما لا يخفى ـ وقد أفردنا ذلك بالبحث المستوعب في الاُصول، وخلاصته بكلّ إيجاز: إنّه قد يقال بحجّية سيرة المتشرّعة إذا انعقدت على شيء حتّى مع عدم إحراز الشرطين لوجوه تالية:

وجوه حجّية سيرة المتشرّعة
الوجه الاوّل

إنّ بناء العقلاء، على كشف نظر رئيس قوم من عمل جمهرة أتباعه حتّى يثبت الخلاف، وهذا المقدار كاف في مقام التنجيز والاعذار لدى العقل والعقلاء، ولا يقلّ هذا اعتباراً عن بنائهم على حجّية قول الثقة.
والمطلب تامّ صغرى: بمراجعة العرف.
وكبرى بما تسالموا عليه من أنّ طرق الاطاعة والمعصية عقلائية إلاّ ما وسّع الشارع الاقدس، أو ضيّق.
والاشكال تارةً: بأنّ مثل هذه السيرة لا توجب العلم بل غايتها إيجابها للظن، وهو لا يغني عن الحقّ شيئاً.
وأُخرى: بالعلم الاجمالي بمخالفتها للواقع.
وثالثة: بالردع عنها بالادلة الناهية عن غير العلم.
غير وارد، بعد كونها من الظنون الخاصّة ببناء العقلاء.
وبعد النقض ـ في الاُخرى ـ بالظواهر، وقول الثقة، ونحوهما، مع نظير العلم الاجمالي المذكور فيها أيضاً، والحلّ: بالخروج عن محلّ الابتلاء في بعض أطرافه، أو التدرّج في الوجود، وعلى القول بتنجّزه مطلقاً، حتّى في الفرضين، فهو مستثنى نظير قول الثقة والظواهر.
وبعد الجواب بمثل ما في الخبر الواحد عن نظيره ـ في الثالثة ـ.

الوجه الثاني

مفهوم قوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)(125).

الوجه الثالث

اطلاق الشهرة في رواياتها، مثل: « خذ بما اشتهر بين أصحابك »(126) ونحوه، الشامل للشهرة العملية حتّى من غير الفقهاء.
والاشكال: بانصرافها إلى القولية غير وارد، لكونه بدوياً لفهم عدم الخصوصية، نظير حجّية خبر الثقة والبيّنة ونحوهما ممّا أفتوا بشمول اطلاقاتها للاعمال ـ كالاقوال ـ إذا كانت دلالتها ـ صغرى ـ ظاهرة، ولم يكن فيها إجمال.

الوجه الرابع

تعليل آية النبأ: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(127) بتقريب: أنّ العمل بالسيرة المتشرّعية ليس فيها جهالة وسفاهة، ولا فيها ندم، لكونها منجّزة ومعذّرة لدى العقلاء إذ الندم ليس على مجرد مخالفة الواقع، وإلاّ لم يبق حجّة غير العلم كما هو واضح.
والاشكال في الاستدلال به صغرى: بأنّه لا يخرجه عن كونه سفهاً وجهلاً.
وكبرى: باحتمال كونها حكمة لا علّة، وتقديم كونها حكمة على كونها علّة مع الشكّ، وعدم الدليل على كونها منحصرة على فرض العلّية ونحو ذلك، قد أجبنا عنها جميعاً في الاُصول، مع بقية ما ذكر عن الادلّة فلا نطيل.
وحاصل ما قد يقال: إنّ سيرة المتشرّعة ـ بما هي هي ـ حجّة، إلاّ ما خرج بدليل، وسيرة المتشرّعة قائمة على تقليدهم للعالم بالاحكام الشرعية فيكون التقليد حجّة، فتأمّل.

الاستدلال للتقليد ـ المصطلح ـ بارتكاز المتشرّعة

أدلّة صحّة التقليد: ارتكاز المتشرّعة
7. وأمّا ارتكاز المتشرّعة من غير إحراز سيرة عملية منهم: فقد يستدلّ به على جواز التقليد ـ بالمعنى الاعمّ ـ.
أمّا صغرى: فلتحقّقه خارجاً برجوع الجاهلين بالاحكام الشرعية إلى العالمين بها، فإنّ المتشرّعة تراهم إذا ابتلوا بموضوع لا يعرفون حكمه الشرعي دعاهم ارتكازهم إلى استطراق أبواب العلماء بالاحكام الشرعية، والسؤال عنهم، وهذا واضح لا غبار عليه.
والاشكال فيه: بأنّ ذلك بما هم عقلاء، ولا خصوصية لكونهم متشرّعة في ذلك، فهو جزئي من جزئيات ارتكازات العقلاء، وليس دليلاً آخر.
غير وارد، وذلك ـ مضافاً إلى أنّ ارتكاز المتشرّعة ينفع فيما لم يوافق ارتكاز العقلاء سعة وضيقاً، حتّى في مثل ما يشكّ في الموافقة وعدمها ـ أنّ توارد دليلين على أمر لا ينفي أحدهما، لانّ الادلّة ليست علل عقلية حتّى لا يمكن اجتماعها على معلول واحد.
وأمّا كبرى: فيستدل له بما ذكر في سيرة المتشرّعة للسببية والمسبّبية بينهما، فما يجري في أحدهما يجري في الاخر ـ عرفاً ـ.
وأعمّية السبب من المسبّب، وبالعكس ـ عقلاً ـ لا تنافي تلازمهما عرفاً، خصوصاً في باب المعرّفات والعلامات التي ملاك الاحكام من قبيلهما، فتأمّل.

تأييد وتأكيد

ويؤيّد ذلك: تواتر كلمات الفقهاء في شتّى الابواب في الفقه على الاستدلال بمرتكزات المتشرّعة، وحمل الاحكام الشرعية عليها، وفيما يلي نذكر نماذج منها:
قال في الجواهر ـ في مقام بيان ملاكات الكبائر وما تعرف به ـ: « أو ما بقي عظمته في أنفس أهل الشرع وإن لم نعثر على غير النهي عنه... لانّ الظاهر من العظمة عندهم، وعدم المسامحة فيهم... أن يكون ذلك مأخوذاً من صاحب دينهم، فتأمّل »(128).
وقد أفتى بذلك في نجاة العباد أيضاً(129).
وقد ترك التعليق عليه الاعاظم من تلاميذه ومعلّقي الكتاب، أمثال الشيخ الانصاري، والشيرازيين، والاخوند، واليزدي، والهمداني، وآخرين. وتجد نظائر ذلك في التفريج الفاحش في قيام الصلاة.
وفي العروة في صلاة الجماعة، في نفس الموضوع قال: « أو كان عظيماً في أنفس أهل الشرع »(130).
وقد ترك التعليق عليه أيضاً معظم المحقّقين من أمثال: العراقي، والنائيني، والحائري، والوالد، وابن العم، والبروجردي، والقمّي، وآخرين.
وفي التنقيح في الاستدلال على اشتراط العقل والايمان والعدالة، في مرجع التقليد قال: « والوجه في ذلك أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة الواصل ذلك إليهم يداً بيد، عدم رضى الشارع بزعامة من لا عقل له، أو لا إيمان، أو لا عدالة له... ولعلّ ما ذكرناه من الارتكاز المتشرّعي هو المراد ممّا وقع في كلام شيخنا الانصاري (قدس سره): من الاجماع على اعتبار الايمان والعقل والعدالة في المقلّد، إذ لا نحتمل قيام إجماع تعبّدي بينهم على اشتراط تلك الاُمور »(131).
إلى غير ذلك ممّا يجده المتتبّع في مختلف كلمات الفقهاء في شتّى أبواب الفقه، على اختلاف مبانيهم الاُصولية والفقهية، فكأنّهم مجمعون على الكبرى في المقام، وإنّما الاشكال ـ إن كان ـ فهو في الصغرى، فتأمّل.

التقليد المذموم

التقليد المذموم وبيانه
ثمّ إنّ التقليد المذموم في الايات الدالّة على الذمّ كقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(132) وقوله سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)(133) وغيرهما، فهو غير التقليد من المجتهد من وجوه:

التقليد المذموم غير التقليد المصطلح من وجوه
الوجه الاوّل

أوّلاً: إنّ مصبّ الايات هو التقليد في أُصول الدين، وتقليد المجتهد فيما نحن فيه إنّما هو في فروع الدين.

الوجه الثاني

وثانياً: هذه الايات إنّما هي في تقليد الجاهل من جاهل آخر بقرينة قوله تعالى: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ). وقوله سبحانه: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ)وما نحن فيه من تقليد الجاهل من عالم بالاحكام وفقيه فيها.

الوجه الثالث

وثالثاً: الايات إنّما ذمّت التقليد مع وضوح أنّ الحقّ مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن آباءهم كانوا على ضلال بقرينة إنّهم حين قيل لهم: (اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ) أو (تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ) لم ينكروا إنّه الّذي أنزله الله، بل اعترفوا بكونه منزلاً من عند الله، ومع ذلك ولّوا إلى ما وجدوا عليه آباءهم، والتقليد الّذي نقوله غير هذا.

الوجه الرابع

ورابعاً: على فرض شمول الايات الذامّة لما نحن فيه، يخرج عن ذمّ التقليد بالروايات المتواترة الدالّة على لزوم التقليد أو جوازه مثل: «فللعوام أن يقلّدوه»(134) ومثل: «لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا»(135) ونحو ذلك.
إلاّ أن يقال: إنّ الايات آبية عن التخصيص، فتأمّل.

كلمة التقليد في الاحاديث

ثمّ إنّ كلمة: التقليد، وردت في عدّة أحاديث ولكي لا يتوجّس خيفة عن هذه اللفظة ذكرنا بعضها فيما مضى وإليك بعضاً آخر منها:
روى الكليني عن علي بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني، عن محمّد بن عبيدة، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): « يامحمّد أنتم أشدّ تقليداً أم المرجئة ؟ قال: قلت: قلّدنا وقلّدوا، فقال (عليه السلام): لم أسألك عن هذا، فلم يكن عندي جواب أكثر من الجواب الاوّل، فقال أبو الحسن (عليه السلام): إنّ المرجئة نصبت رجلاً لم تفرض طاعته وقلّدوه، وأنتم نصبتم رجلاً وفرضتم طاعته ثم لم تقلّدوه، فهم أشدّ منكم تقليداً »(136).
وفي رواية أبي بصير، قال: « دخلت أُمّ خالد العبدية على أبي عبدالله (عليه السلام)... قالت: قد قلّدتك ديني، فألقى الله عزوجل حين ألقاه فأخبره أنّ جعفر بن محمّد (عليهما السلام) أمرني ونهاني »(137).
وفي حديث الخلافة: « فقلّدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً (عليه السلام) »(138).
وفي جامع أحاديث الشيعة: عن قرب الاسناد، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: « قلت للرضا (عليه السلام): جعلت فداك أنّ بعض أصحابنا يقولون: نسمع الامر الاثر يحكى عنك وعن آبائك (عليهم السلام)فنقيس عليه ونعمل به، فقال (عليه السلام): سبحان الله، لا والله، ما هذا من دين جعفر (عليه السلام)هؤلاء قوم لا حاجة بهم إلينا، قد خرجوا من طاعتنا وصاروا في موضعنا، فأين التقليد الّذي كانوا يقلّدون جعفراً وأبا جعفر (عليهما السلام) ؟... »(139).

اعتراض ونقاش

أقول: تمسّك بعض الاخباريين بمثل هذا الحديث لاثبات عدم جواز تقليد غير المعصوم لكنّه في غير محلّه، إذ فيه ما يلي:
أوّلاً: هذا الحديث ونحوه إنّما هو لردّ من كان من غير العامّة وعمله مثل عمل العامّة، ممّن كانوا يعتمدون على آرائهم فيما يقيسونه على جزئيات الاحكام الواردة عن الائمّة (عليهم السلام)، ويتركون ـ في الجزئيات التي ورد فيها عن المعصوم أثر ـ الاخذ منه (عليه السلام)، وأين هذا من التقليد الّذي يعتمد على فقيه يأخذ من المعصوم الجزئيات كلّها، فإذا لم يجد فيما عن المعصوم من جزئي، تمسّك فيه بالكلّيات الواردة عنهم (عليهم السلام) ؟
وثانياً: كان الاجدر ـ بناءً عليه ـ الاستدلال بهذا الخبر على بطلان الاجتهاد، لا بطلان التقليد ووجوب الاجتهاد، فتأمّل.

الجمع العرفي بين روايات التقليد

إلى غير ذلك من الروايات التي ذكر فيها التقليد بهذا اللفظ، والجمع العرفي بين هذه الروايات وبين ما ورد في ذمّ التقليد هو: حمل هذه على تقليد أهل الحقّ، وتلك على تقليد أهل الباطل، ويشهد لهذا الجمع ـ مضافاً إلى أنّه هو المنصرف منهما، وفيهما شواهد مقالية ومقامية عليه ـ خبر محمّد بن عبيدة الانف ذكره.
ثمّ إنّ البحث عن جعل التقليد من المقلِّد ـ بالكسر ـ أومن المقلَّد ـ بالفتح ـ أو منهما جميعاً من قبيل الكسر والانكسار، بحث لغوي خاصّ، لا ثمرة فيه لما نحن فيه، وإن كان الارجح الاوّل.

القول بتحريم التقليد وردّه

أدلّة تحريم التقليد ومناقشتها
بقي الكلام في خلاف منسوب إلى جمع من علماء حلب وجل الاخباريين في جواز التقليد: من تحريمه بالادلّة الاربعة الدالّة على حرمة العمل بالظن، ظانين أنّ التقليد من العمل بالظن.
وفيه أوّلاً: التقليد إنّما هو طريق امتثال، وطريق الامتثال أمره موكول بيد العقل والعقلاء، ولا تشمله الادلّة اللفظية المحرّمة للظن وأمثاله، لخروجه التخصّصي منها، لانّه نوع من العلم العادي، فرجوع الجاهل في كلّ شيء إلى العالم به، ليس من العمل بالظن، بل من الاخذ بالعلم المتعارف في طرق الامتثال، لا أقل من كونه معلوم الحجّية، ولا يضرّ كون المتعلّق مظنوناً بعد أن كانت الحجّية متعلّقة العلم.
وهذا نشأ ـ ظاهراً ـ من أجل تفسير البعض الاجتهاد: بأنّه تحصيل الظن على الحكم الشرعي، وقد مرّ عدم تمامية هذا التفسير.
وثانياً: على فرض كون التقليد من العمل بالظن فهو من الظن الخاص الّذي خرج عن دائرة حرمة العمل بمطلق الظن، لقيام الادلّة الاربعة ـ التي مرّت مفصّلة ـ على جواز التقليد، نظير الخبر الواحد، وقول ذي اليد، والاستصحاب وغيرها من سائر الامارات والاُصول.
وثالثاً: انصراف أدلّة حرمة العمل بالظن عن مثل تقليد الجاهل للعالم الّذي استقرّ بناء العقلاء طرّاً في كلّ الملل والازمان على حجيّته والعمل به ـ كما تقدّم.
ورابعاً: انسداد باب الاجتهاد على معظم الناس.

الاشكال بالدور وجوابه

وبهذه الوجوه وغيرها يدفع ما ربما يقال: من أنّ عدم شمول أدلّة حرمة العمل بالظن للتقليد لا يكون إلاّ دورياً لتوقّفه على حجّية التقليد، المتوقّفة على عدم شمول أدلّة حرمة العمل بالظن له، وذلك لانّ عدم الشمول لا يتوقّف على حجّية التقليد، بل على انصراف أدلّة حرمة العمل بالظن عن مثل التقليد، ونحو ذلك.
وبذلك نستغني في دفع الدور عن مثل استصحاب حجّية بناء العقلاء السابقة على الادلّة الشرعية لحرمة العمل بالظن، وغير الاستصحاب ممّا تمسّك به بعضهم في المقام، فتأمّل.
قال في الفصول: « وربما خالف في ذلك شرذمة شاذّة فحرّموه ـ أي: التقليد ـ وأوجبوا على العامي الرجوع إلى عارف عدل يذكر له مدرك الحكم من الكتاب والسنّة، فإن ساعد لغته على معرفة مدلولهما وإلاّ ترجم له معانيهما بالمرادف من لغته، وكانت الادلّة متعارضة ذكر له المتعارضين، ونبّهه على طريق الجمع بحمل المنسوخ على الناسخ، والعام على الخاصّ، والمطلق على المقيّد، ومع تعذّر الجمع يذكر له أخبار العلاج على حذو ما مرّ، ولو احتاج إلى معرفة حال الراوي ذكر له حاله، إلى أن قال: وبشاعة هذا القول وفساده بالنسبة إلى أمثال زماننا ممّا يستغني لوضوحه عن البيان، لظهور عدم مساعدة إفهام كثير من العوام على فهم قليل من الاحكام بهذا الوجه، مع عدم مساعدة أكثر أوقات العالم على تعليم قليل ممّا يحتاج إليه بعض العوام... »(140).

أدلّة الاخباريين على التحريم

ولا بأس للوقوف على أدلّة الاخباريين، وبيان وجهة النظر فيها، وذكرها بإيجاز واستيعاب مع أجوبتها، لتتّضح حقيقة الحال.
اعلم أنّ الاخباريين ذكروا لما ذهبوا إليه من حرمة التقليد أدلّة أنهاها بعضهم إلى عشرة، وآخرون إلى خمسة عشر، وأضاف جمع منهم أدلّة أُخرى إليها فبلغوا بها إلى نيف وعشرين دليلاً، ونحن نذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ المهمّ منها مع ما يرد عليها من إيراد.

الدليل الاوّل

الاوّل: النصوص الدالّة على حرمة القول بالرأي كرواية مسعدة بن صدقة عن الباقر (عليه السلام): «من دان الله بالرأي، لم يزل دهره في ارتماس»(141) ونحوها بضميمة إنّ الاجتهاد قول بالرأي، والتقليد عمل بالرأي.

مناقشة الدليل الاوّل

وفيه: إنّ المراد بالرأي هو: العمل بالرأي النفسي الشهواني كالقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة المعتمدة عند العامّة، وليس المراد بالرأي هو المأخوذ عن الكتاب والسنّة، لانّه ليس رأياً، واطلاق الرأي عليه إن كان فهو مجاز.
ويؤيّد ذلك، بل يدلّ عليه: الاخبار الواردة في تفسير: الرأي، وتجويز العمل بما له أصل في الكتاب والسنّة، وهذا دليل تقابلهما لا تداخلهما، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): « ايّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم أعيتهم السنن أن يحفظوها »(142).
وقوله (عليه السلام): « استغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم الله، واكتفوا بذلك عن رسله، والقوّام بأمره، وقالوا لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا »(143).
ورواية ابن مسكان عن حبيب قال: « قال لنا أبو عبدالله (عليه السلام): ما أحد أحبّ إلى منكم، إنّ الناس سلكوا سبلاً شتّى، منهم من أخذ بهواه، ومنهم من أخذ برأيه، وإنّكم أخذتم بأمر له أصل »(144) يعني: بالكتاب والسنّة.
ولا يخفى إنّ كلمة: « الناس » في مصطلح الائمّة الطاهرين (عليهم السلام): العامّة، كما يظهر عند التتبّع لمختلف موارد كلامهم (عليهم السلام).
وهذا هو الّذي يعبّر عنه بـ: « الاجتهاد في مقابل النصّ » وهو غير الاجتهاد عن النصّ.

الدليل الثاني

الثاني: الروايات الدالّة على وجوب الاقتصار في أخذ الاحكام عن الائمّة الطاهرين (عليهم السلام)، والمنع عن الاخذ من غيرهم.
بضميمة: إنّ الاجتهاد أخذ للاحكام من غيرهم (عليهم السلام)، وإن أخذ العامي من المجتهد أخذ من غيرهم (عليهم السلام).

مناقشة الدليل الثاني

وفيه: إنّ هذه الاخبار أيضاً في قبال العامّة، الذين كانوا يطرقون أبواب غير أهل البيت (عليهم السلام) في أخذ الاحكام الشرعية، وليس في مقابل المجتهد الّذي يتعب نفسه ليلاً ونهاراً في تنقيح الاخبار الواردة عن المعصومين (عليهم السلام)، وتمييز صحيحها من غيره، وترجيح متعارضاتها، ونحو ذلك.
فهو أخذ عن المعصومين (عليهم السلام) والعامّي المقلّد له مقلّد لما وصل عن المعصوم، فسبيل المجتهدين سبيل زرارة، ويونس بن عبدالرحمن، والعمري ونحوهم الذين أمر المعصومون (عليهم السلام) بالاخذ عنهم.
ويؤيّد ذلك: أمرهم (عليهم السلام) لنا بتفريع الفروع عمّا يلقوه هم الينا من أُصول الاحكام، مثل: ما عن ابن إدريس ـ في آخر السرائر ـ عن كتاب هشام بن سالم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: « إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا »(145).
وما عن كتاب أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن الرضا (عليه السلام): « عيلنا إلقاء الاُصول، وعليكم التفريع »(146).
وفي رواية أبي حيون ـ مولى الرضا ـ عن الرضا (عليه السلام) قال: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم»(147) ونحوها غيرها في مختلف الابواب، وهو كثير.

الدليل الثالث

الثالث: روي متواتراً: «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(148).
بضميمة: إنّ الاجتهاد يتغيّر، فلو كان واقعاً تغيّراً من الحلال إلى الحرام لا يجوز الاجتهاد الثاني، ولا تقليده، ولو كان العكس لم يجز الاجتهاد الاوّل، ولا تقليده، واجتهاد هذا شأنه لا يكون حجّة.

مناقشة الدليل الثالث

وفيه نقضاً: بما لو فهم الاخباريون من الاحاديث حكماً، ثم بعد مدّة، ومراجعة ثانية فهموا غير ذلك ـ كما يتعارف ذلك لهم أيضاً خصوصاً في الاخبار المتعارضة، التي لها وجوه جمع متعدّدة ـ فهل الفهم الاوّل حلال، أم الثاني، وعلى كلتا الصورتين يكون الفهم الاخر حراماً، والجواب عن ذلك هو الجواب عن الاجتهاد المختلفين المتعاقبين.
وحلاً: بأنّ المقصود من هذه الرواية المتواترة: إمّا كون دين الاسلام غير قابل للنسخ، بل هو آخر الاديان وليس كدين موسى وعيسى (عليهما السلام) الذين نسخا، كما هو الظاهر، أو: إنّ المراد بالحلال والحرام فيها هو الحلال والحرام الواقعيان، وهو ردّ للمصوبة القائلين بأنّ أحكام الله تعالى تابعة لاراء المجتهدين.
وليس المقصود: هو الحلال والحرام الظاهريين، إذاً لا مناصّ من كثرة تعاقبهما مختلفين حسب اختلاف مواردهما واختلاف الاُصول والادلّة الجارية فيهما، وخذ لذلك مثلاً: لو وجد الانسان لحماً في يد مسلم كان محكوماً بالحلية، فإذا قامت البيّنة الشرعية على إنّها ميتة حكم بالحرمة، فإذا ثبت بعد هذا بالعلم القطعي، إنّه مذكّى كان حلالاً، ولذلك نظائر كثيرة في كلّ زمان ومكان، وقد بحث ذلك في الاُصول باسهاب عند الحديث عن جواز جعل الامارات والطرق غير العلمية.

الدليل الرابع

الرابع: النصوص المستفيضة، بل التي كادت أن تكون متواترة، التي تدلّ على أنّ كلّ واقعة جاء فيها حكم من الكتاب أو السنّة، كحديث الامام الباقر (عليه السلام): « إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الاُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) »(149) ونحوه غيره وهو كثير.
بضميمة: إنّ موردي: الاجتهاد، والتقليد من المجتهد، هو ما لم يكن الحكم مذكوراً لا في الكتاب ولا في السنّة، وصريح هذه الروايات تنفي وجود مثل هذا المورد.

مناقشة الدليل الرابع

وفيه أوّلاً: وردت روايات بأنّ الدين كامل ولكنّه مخبوء عند أهل البيت (عليهم السلام) كحديث أبي الحسن (عليه السلام): « إنّ الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيّه حتّى أكمل له جميع دينه... وإنّها مخبّية عند أهل بيته »(150) ونحوه غيره أيضاً.
وثانياً: ليس معنى وجود كل حكم في الكتاب والسنّة، فهم كل أحد ذلك الحكم، واستطاعة عامّة الناس من استنباطه من الكتاب والسنّة، إذ لا ينافي ذلك وجود أفراد معدودين يفهمون الكتاب والسنّة، كما يؤيّد ذلك قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(151).
والروايات الواردة بأنّ القرآن فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وعزيمة ورخصة، ونحوها ممّا لا يفهمها كلّ أحد.
وكذلك الروايات التي تدلّ على أنّ حديثهم « صعب مستصعب لا يحتمله لا يعرفه إلاّ ملك مقرّب، أو نبي مرسل، أو عبد امتحن الله قلبه للايمان »(152) أو: «لا يحتمله ملك مقرّب... »(153).
والروايات التي تقول: « لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتّى يعرف معاريض كلامنا »(154) وغيرها ممّا يدلّ على إنّه ليس كلّ أحد يستطيع فهم كلّ القرآن والسنّة، وردّ متعارضاتها، والمقصود من متشابهاتها وردّها إلى محكماتها، إلى غيرها.

الدليل الخامس

الخامس: الايات الناهية عن العمل بغير العلم كقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(155).
وقوله سبحانه: (إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(156) وغيرهما.
بضميمة: إنّ العمل بالاجتهاد، والتقليد للمجتهد كلاهما عمل بغير علم.

مناقشة الدليل الخامس

وفيه أوّلاً: إنّه عمل بالعلم، للعلم بحجّية طريقي: الاجتهاد والتقليد، حسب الادلّة السابقة لكلّ من الاجتهاد والتقليد، وليس معنى العلم فقط هو العلم الوجداني بالاحكام الشرعية رأساً، بل يشمل العلم بالحجّة أيضاً.
وثانياً: أنّ طريقي: الاجتهاد والتقليد، خارجان بالتخصيص على فرض كونهما من غير العلم، نظير خروج الخبر الواحد، والبيّنة العادلة، وقول ذي اليد، واليمين، والاقرار، ونحوها عن عمومات حرمة العمل بغير العلم، وخروجهما إنّما هو بالادلّة التي ذكرناها سابقاً.

الدليل السادس

السادس: إنّ تجويز العمل بغير العلم يوجب تسهيل العذر لليهود والنصارى وسائر الاديان الباطلة، لدعواهم حصول الظن لهم بمعتقداتهم.

مناقشة الدليل السادس

وفيه: إنّه قياس مع الفارق، لانّ تقليدهم في أُصول الدين، وتقليدنا في فروع الدين، ونحن لا نقول بكفاية غير العلم في أُصول الدين، وهذا اللازم يترتّب على فرض الاكتفاء بغير العلم في أُصول الدين.
مضافاً إلى ورود نفس الاشكال في التفقّه للمجتهد.

الدليل السابع

السابع: إنّ الاجتهادات تختلف باختلاف الاذهان، والاستعدادات، والاراء والازمنة، والاحوال، ونحوها، فهي غير منضبطة، وكيف يمكن تعويل الشرع على أمر غير منضبط يؤدّي إلى الحكم بالمتناقضات أحياناً، أو كثيراً ؟

مناقشة الدليل السابع

وفيه أوّلاً: إنّ في العمل بالاخبار ـ بدون الاجتهاد والتقليد ـ أيضاً يترتّب هذا اللازم، إذ الافهام مختلفة، والاستعدادات متفاوتة، والاحوال متغيّرة، فقد يفهم أحد من خبر: الوجوب، ويفهم ثان منه: الاستحباب، وقد يستفاد من رواية في حالة: الحرمة، وفي حالة أُخرى: الحلّية.
وثانياً: إنّ الادلّة منضبطة عندنا، وهي الكتاب، والسنّة، والاجماع، والعقل، والسيرة القطعية، التي مرجعها إلى السنّة أو الاجماع ـ أيضاً ـ.
وثالثاً: فليكن هذا اللازم، فما دامت الحجّة قائمة على اعتبار الاجتهاد والتقليد، نلتزم بهما مع كلّ ما يترتّب عليهما من اللوازم، أليس يلزم مثل ذلك في حجّية الخبر الواحد، وحجّية البيّنة، وحجيّة اليمين، وحجيّة أصل الطهارة، والاستصحاب، وغير ذلك ممّا يكثر الاحكام المتناقضة من حجّيتها بمجموعها ؟

الدليل الثامن

الثامن: إنّ المجتهدين قد يعملون بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويتركون العمل بأخبار الائمّة (عليهم السلام).

مناقشة الدليل الثامن

وفيه أوّلاً: لا يعمل المجتهدون بذلك إطلاقاً، كيف وقد اتّفقوا على تأسيس أصل يتّبعونه في مختلف أبواب الفقه وهو: أصالة حرمة العمل بغير العلم إلاّ ما خرج بالدليل ؟ فكيف يعملون بالقياس ونظائره ممّا هو معلوم حرمة العمل به ؟
نعم، قد يعمل المجتهدون بتنقيح المناط، ويشترطون فيه: كونه موجباً للاطمئنان، وهو غير القياس، وذلك لانّ القياس: تعدّي الحكم من جزئي إلى جزئي آخر لا جامع بينهما في لسان الدليل، ولا في العرف، بينما تنقيح المناط هو: تعدّي الحكم مع وجود جامع عرفي بحيث يعتبر هذا عرفاً هو ذاك، وتنقيح المناط يعتمد فيه على عدم فهم الخصوصية، أو فهم عدم الخصوصية كما لا يخفى لمن راجع تضاعيف كلماتهم.
مضافاً إلى أنّ كون بعض موارد تنقيح المناط من القياس ـ كما ادّعي ـ لا يكون دليلاً على عدم حجّية أصل الاجتهاد، لما ثبت: من أنّ الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً.
وثانياً: إنّهم إنّما يتركون الاخبار المنسوبة إلى الائمّة (عليهم السلام) الّتي لم يثبت حجّيتها بدليل، كأخبار المجاهيل، أو المطعون في عقائدهم، أو أخلاقهم، أو نحو ذلك، ممّا لم يعبّدنا الشارع بها، كما هو ظاهر لمن راجع عامة كتب المجتهدين، ولا يتركون الروايات الصحاح، والموثّقات، والحسان، كما لا يخفى.

الدليل التاسع

التاسع: إنّ طريقة الاخباريين أوفق بالاحتياط، لانّه أخذ بالعلم واليقين، بخلاف طريقة المجتهدين.

مناقشة الدليل التاسع

وفيه أوّلاً: نتساءل ما هي طريقة الاخباريين الموجبة للعلم ؟ وما هي طريقة المجتهدين المعوّلة على غير العلم ؟
إن كانت طريقة الاخباريين العمل بكلّ حديث نقل عن المعصوم (عليه السلام) من دون ملاحظة الناقل، وأنّه ثقة أم لا، ومن دون ملاحظة العام والخاص، والمطلق والمقيّد، والمتعارضين، وأوجه التراجيح، ونحو ذلك، فهذا هو التعويل على غير العلم، لانّه ليس علماً وجدانياً، ولا أمرنا الشارع بهكذا أخذ وعمل، بل أمرنا بالعكس من ذلك، لقوله (عليه السلام): « لا عذر لاحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا »(157) ونحوه.
وإن كانت طريقة المجتهدين هو العمل بما ثبت علماً وجدانياً، أو علميّاً ـ أي: علماً تنزيليّاً ـ إنّه المأمور به، وإنّه الواصل عن المعصومين (عليهم السلام) وبتدقيق الاثار الواردة، وعرضها على الكتاب والسنّة، الّذي أمرنا بالعرض عليهما، وتمييز عموماتها عن خصوصاتها، ومطلقاتها عن مقيداتها، ومتعارضاتها، وكيفية الجمع والتراجيح بينها، فهذا هو التعويل على العلم، الّذي هو إمّا علم وجداني، أو علم تنزيلي، ثبت بالقطع أنّه مأمور به من قبل الائمّة الطاهرين (عليهم السلام).
وثانياً: إن أُريد بذلك لزوم اتّباع العلم حتّى مع انسداده، فهذا ما لا يلتزم به حتّى الاخباريين، لانّه يستلزم إمّا تكليف ما لا يطاق أو ارتفاع التكاليف كلّها.
بضميمة: إنّ العوام غالباً لا يمكنهم تحصيل العلم، فهو انسداد لهم ـ وهذا على المبنى الانسدادي ـ.
وثالثاً: إنّ ما مرّ من أدلّة التقليد من الكتاب والسنّة والاجماع والعقل وبناء العقلاء، تجعل التقليد علمياً، فيكون خارجاً بالتخصّص عن هذا الاستدلال، إذ دليل الاخباريين هذا اعتمد على أصل عملي، وهو أصل حيث لا دليل.
وإن أُريد به لزوم اتّباع العلم حال انفتاحه، فهذا ما لا يضايق به الاُصوليون.

الدليل العاشر

العاشر: إنّ السيرة المستمرّة بين أصحاب الائمّة المعصومين (عليهم السلام) إنّهم كانوا يعملون بالاحاديث الواصلة إليهم من دون تأمّل، أو فحص عن المعارض، أو عن المخصّص، ولا كانوا يحتاجون للعمل بالاخبار إلى دراسة علوم ومقدّمات.
والاُصول الاربعمائة التي كتبها أصحاب الائمّة (عليهم السلام) كان جامعوها، ومن كان عندهم من تلك الاُصول شيء، يعملون بها بمجرد ملاحظة الحديث في الاصل المعتمد، وهذا دليل إمّا على بطلان الاجتهاد والتقليد، أو عدم لزومهما.

مناقشة الدليل العاشر

وأُجيب عنه: بأنّ الحاضرين في زمن الخطاب يستريحون غالباً من أهمّ موارد التعب في استفادة الاحكام وهو شيئان: السند، والدلالة.
أمّا ارتياحهم من جهة السند: فلحصول العلم أو الاطمئنان غالباً من سماع الرواية بدون واسطة، أو بوسائط قليلة، وقرائن حالية أُخرى ممّا ليست موجودة عندنا.
وأمّا ارتياحهم من جهة الدلالة غالباً: فلانّ القرائن الحالية وأساليب الكلام في ذلك العرف، ظاهرتان غالباً لاهل ذلك الزمان، وممّا تخفى كثيراً على غيرهم من أهل الازمنة الاُخرى، إلاّ بمعونة أصالة عدم النقل التي هي أمارة في باب الدلالة اللفظية.
هذا مضافاً إلى كثرة القالة عليهم، ووقوع التحريف والتصحيف في أحاديث العترة الطاهرة (عليهم السلام) وكثرة المخصّص والمقيّد، ممّا لم تكن في زمن المعصومين (عليهم السلام) فإنّ المصالح كانت قد تقضي بأن يبقى العام برهة من الزمن ثمّ يذكر المخصّص له، فالحاضر المشافه كان يتلقّى العام بدون مخصّص فيعمل به رأساً، وأمّا نحن بعد علمنا بوجود مخصّصات كثيرة للعمومات كيف يجوز لنا عقلاً وعرفاً العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ؟

نموذج ومثال

ولكي تظهر حقيقة الحال أكثر، نذكر ما ينقل عن صاحب المناهج (قدس سره) من المثال لذلك بتقريب وتلخيص وهو: إنّه إذا ورد حديث ـ مثلاً ـ يقول: إذا أفطرت عمداً في شهر رمضان، فاعتق رقبة، أو أطعم ستّين مسكيناً، أو صم شهرين متتابعين، فاستفادة الحكم الشرعي من هذا بحاجة إلى أُمور:
1. إلى معرفة حجّية الخبر الواحد إجمالاً شرعاً.
2. إلى معرفة إنّ هذا الخبر من الاخبار التي هي حجّة شرعاً.
3. إلى تحصيل الحجّة الشرعية على جواز العمل به قبل الفحص عن المخصّص أو المقيّد.
4. في صورة العدم يحتاج إلى الفحص عن المخصّص أو المقيد.
5. إلى تحصيل الحجّة الشرعية على مقدار الفحص، هل هو حتّى العلم بالعدم، أم الاطمئنان بالعدم، أم اليأس، أم الظن ؟
6. هل إنّ « إذا » تفيد العموم أم لا ؟
7. هل الامر بالاعتاق يفيد الوجوب أم لا ؟
8. هل يكفي عتق مطلق الرقبة، أم خصوص المؤمنة ؟
9. ما هو المراد بالمسكين ؟
10. هل المراد بالشهرين:القمرية، أم الشمسية، أم الاعمّ ؟ وما حكم التلفيق ؟
11. ما هو المراد بالتتابع ؟
12. ما المقصود بالاطعام ؟ وبأي قدر يجب أن يكون ؟
13. هل يشمل ذلك الاطفال، أم لا ؟
14. وما هي شرائط هذا الصوم ؟
15. وهل بالتوبة يرفع هذا الحكم، أم لا ؟
إلى غير ذلك من الاُمور الكثيرة المكتنفة بالكلام، فمن لم يكن مجتهداً ـ أي: غير قادر على تحصيل الحجّة الشرعية على هذه الاُمور ـ كيف يستطيع أن يستفيد ويعمل بهذا الحديث ؟ وهل يكون قول غير المجتهد في ذلك إلاّ قولاً بغير علم وقد نهى عنه القرآن الحكيم إذ قال: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(158)؟

الدليل الحادي عشر

الحادي عشر: إنّه لو كان العمل بالاحكام الشرعية موقوفاً على تعلم العلوم، والاجتهاد، والسعي البالغ، لبيّنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمّة (عليهم السلام) وهذا من الموارد التي لو كان فيها دليل لبان، فعدم الوجود هنا دليل العدم.
بل ربما يقال: بأنّ ترك الاستفصال، والاطلاق، في أخبار وجوب العمل بالاحاديث الصحيحة الواردة عنهم (عليهم السلام) دليل عدم الوجوب.

مناقشة الدليل الحادي عشر

وأُجيب عنه أوّلاً: إنّ في الروايات شواهد متعدّدة على أنّ الاحاديث الواردة عنهم (عليهم السلام) لا يفهمها كلّ أحد، ولا يستفيد منها إلاّ العلماء كقولهم (عليهم السلام)« حديثنا صعب مستصعب »(159).
وقولهم (عليهم السلام) « لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا »(160).
وغيرها ممّا يظهر منه أنّ لكلامهم معاريض وصعوبات، فليس كلّ أحد يستطيع أن يعمل بكلّ حديث ورد عنهم من غير علم وفحص.
وثانياً: ما دام لا يحصل الاخذ للاحاديث إلاّ بهذه المقدّمات، فهي مقدمات وجود يجب طيّها وسلوكها، نظير سائر مقدّمات الوجود في بقية الواجبات، فكما أنّ الائمّة الطاهرين (عليهم السلام) اعتمدوا في ترك ذكر مقدمات الوجود للاحكام الشرعية على العقل وسيرة العقلاء، فكذلك في ما نحن فيه.
وثالثاً: ما سبق من أنّ الاخذ بالاحاديث لم يكن محتاجاً في أزمنة المعصومين (عليهم السلام) إلى هذا المقدار الكثير من المقدّمات، لتوفّر الوسائل التي بها تكشف عن صحّة الحديث، وتفسيره، ووجوه الجمع بين المتعارضات، ونحو ذلك، مع وضوح أنّ الائمّة أمروا بذلك كما في أخبار التعارض وغيرها.
نعم، لا يجب التجشّم الكثير في قراءة الاُصول، وعلم الرجال، والحكمة، والمنطق، بما يؤهّله لان يكون أوحدياً في هذه العلوم، ويكفي استقاء ما يؤهله للاطمئنان إلى جهات الحديث المختلفة.

الدليل الثاني عشر

الثاني عشر: ما عن بعضهم من الاستدلال للاخباريين ببعض الروايات الواردة في صيام شهر رمضان، مثل صحيح أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: « إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله، فلا تؤدّوا بالتظنّي »(161).
ونحوه ما في المستدرك، عن العياشي في تفسيره، عن أبي خالد الواسطي، عن الامام الباقر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: « وهذا الشهر المفروض رمضان، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإذا خفي الشهر فأتمّوا العدّة شعبان ثلاثين، وصوموا الواحد والثلاثين »(162).
وما عن الشيخ المفيد (قدس سره) في الرسالة العددية عن الحسن بن نصر، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في حديث: « وشهر رمضان منها ـ يعني من الاشهر ـ مفروض فيه الصيام، فصوموا للرؤية، فإذا خفي الشهر فأتمّوا ثلاثين يوماً »(163).
وتقريب الاستدلال بها: هو أنّ ظاهرها تعليق عدم جواز التظنّي ولزوم تحصيل العلم ولو التنزيلي على كون شهر رمضان فريضة، فيعلم من ذلك ـ بنصّ التعليل ـ أنّ كلّ فريضة لا يجوز اتيانها بالتظنّي، والتقليد ظنّ فلا يجوز.

مناقشة الدليل الثاني عشر

وفيه أوّلاً: إنّه قال جمع في باب الصوم بجواز الاحتياط فيه ـ كما ليس ببعيد ـ فإذا بطل الاستدلال في الصوم، بطل في غيره بطريق أولى لاستهجان خروج المورد.
وثانياً: هل المستدلّ يسحب الحكم إلى صوم فريضة أُخرى غير شهر رمضان، كما لو نذر أن يصوم شهر رجب، فهل يلتزم المستدلّ بعدم جواز الاحتياط في أوّله وآخره، حتّى يتعدّى منه إلى سائر الواجبات ؟
وثالثاً: إنّ ظاهر هذه الروايات هو عدم جواز الاعتماد على « التظنّي » فقط، بالاتيان بالصوم بنيّة شهر رمضان، لا الاحتياط، ويؤيّد ذلك: كونها في سياق الروايات الواردة ردّاً على العامّة، الذين يصومون بنيّة شهر رمضان اعتماداً على حكم فاسق، أو شاهد غير ثقة، ونحو ذلك.
ويؤيّده: ذهاب جمع من المتقدّمين والمتأخرين إلى جواز صوم يوم الشكّ بنيّة أنّه إن كان رمضاناً فبها ونعمت، وإلاّ كان من شعبان، منهم: الشيخ في الخلاف والمبسوط، وابن حمزة، والعلاّمة، والشهيد، وكذا في مهذّب الاحكام، وفي موسوعة الفقه، وغيرها.
وبذلك ظهر: عدم تمامية الاستدلال بهذه الروايات على عدم جواز الاحتياط، أو عدم صحّته مطلقاً، من وجوه عديدة.

أدلّة أُخرى مع أجوبتها

وهناك أدلّة أُخرى ذكروها وأعرضنا عنها كفاية في ما ذكرنا منها، أو رجوع معظمها إلى بعض ما ذكرناه، كاستدلال المحدّث الاسترابادي في فوائده المدنية: « بأنّ الشريعة السمحة السهلة كيف تكون مبتنية على استنباطات صعبة مضطربة ؟ ».
وبأنّ: «المسلك الّذي يختلف باختلاف الاذهان والاحوال والاشخاص، لا يصلح لان يجعله تعالى مناطاً لاحكام مشتركة بين الاُمّة إلى يوم القيامة » ونحو ذلك، ممّا يرد عليها بوضوح: النقض بعمل الاخباريين أنفسهم، وعليها أجوبة حليّة أُخرى، مع أنّ مسلك المجتهدين أقل اختلافاً من مسلك الاخباريين، إذ لو اختلف فهم مائة مجتهد، فبطريق أولى يكون اختلاف فهم جميع المكلّفين أكثر، والاخباري يرى لزوم كون كلّ مكلّف فقيهاً في الاحكام ولو بالتقليد في المقدّمات، ولعلّ في هذا المقدار ـ دليلاً وجواباً ـ كفاية.

نتيجة الاستدلالات والمناقشات

وقد ظهر من ذلك كلّه: إنّ النزاع الاخباري الاُصولي ـ غالباً ـ نزاع لفظي لا
... أو محتاطاً.
لبّي، فالفقيه الاخباري والفقيه الاُصولي كلاهما يستنبطان الاحكام على نسق واحد، فمن يلاحظ الجواهر للفقيه الاُصولي، مع الحدائق للفقيه الاخباري يراهما على نسق واحد في استنباط الاحكام من الادلّة الشرعية.
نعم هناك اختلاف بينهما في بعض المباني، وفي كيفية الاستدلال، ونحو ذلك، ممّا هو متوفّر بين فقهاء الاخباريين أنفسهم بعضهم مع بعض أيضاً.




(1) الوسائل: الباب 58 من أبواب المهور، ح18.
(2) الوسائل: الباب 64 من أبواب النجاسات، ح1.
(3) الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب المواقيت، ح10.
(4) الوسائل: الباب 12 من أبواب مقدّمات التجارة، ح2.
(5) البحار: ج101 ص342، طبعة بيروت.
(6) سفينة البحار: ج2، مادّة فوض.
(7) مباني منهاج الصالحين: ج1 ص5.
(8) الرعد: 21.
(9) إبراهيم (عليه السلام): 4.
(10) الكافي: ج1، ص23، كتاب العقل والجهل، ح15.
(11) المستدرك: الباب32 من أبواب الامر والنهي، ح7.
(12) ذخيرة المعاد: ص17، التعليقة 2.
(13) الوسائل: الباب3 من أبواب قراءة القرآن، ح7.
(14) الوسائل: الباب28 من أبواب أحكام الملابس، ح6.
(15) جامع أحاديث الشيعة: ج1، الباب 3 و4 و5 من المقدمات.
(16) الاعراف: 3.
(17) الانعام: 155.
(18) الانعام: 151.
(19) النحل: 64.
(20) الجاثية: 20.
(21) النساء: 59.
(22) النساء: 80.
(23) الحشر: 7.
(24) الاعراف: 157.
(25) النساء: 59.
(26) النساء: 83.
(27) الحجرات: 6.
(28) النحل: 43.
(29) التوبة: 122.
(30) جامع أحاديث الشيعة: ج1، الباب 2 ـ 6 من المقدمات.
(31) مجمع البيان: ج1، ص44.
(32) الكافي: ج2، ص599، كتاب فضل القرآن، ح2.
(33) من لا يحضره الفقية: باب الفروض على الجوارح، ح1.
(34) روضة الكافي: ص8.
(35) الكافي: ج1، ص25، كتاب فضل العلم، ح22.
(36) كنز الفوائد: ص164.
(37) البحار: ج23 ص120 ح40 و41.
(38) الوسائل: الباب 5 من أبواب صفات القاضي، ح9.
(39) الكافي: ج1، ص31، باب فرض العلم، ح6.
(40) تفسير نور الثقلين: ج2 ص284.
(41) الكافي: ج1، ص31، باب فرض العلم، ح7.
(42) الكافي: ج1، ص31، باب فرض العلم، ح8.
(43) رجال الكشي (اختيار الشيخ): ص332.
(44) رجال الكشي: ص7.
(45) رجال الكشي: ص10.
(46) اختصاص المفيد (قدس سره): ص201.
(47) الكافي: ج1 ص329.
(48) رجال الكشي: ص89 و216 و305 و366.
(49) الوسائل: الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ح38.
(50) جامع أحاديث الشيعة: الباب 7 من المقدّمات.
(51) نهج البلاغة: الخطبة 1.
(52) نهج البلاغة: الخطبة 230، ج2، ص223.
(53) الوسائل: الباب 20 من أبواب مقدّمة العبادات، ح1.
(54) الوسائل: الباب 1 من أبواب أحكام العشرة، ح4.
(55) الوسائل: الباب 20 من أبواب مقدّمة العبادات، ح4.
(56) الوسائل: الباب 20 من أبواب مقدّمة العبادات، ح11.
(57) الكافي: ج8، ص90.
(58) الوسائل: الباب 25 من أبواب أحكام العشرة، ح2.
(59) الجواهر: ج40 ص23.
(60) الجواهر: ج40 ص22.
(61) التوبة: 122.
(62) النحل: 43.
(63) الحجرات: 6.
(64) المائدة: 104.
(65) البقرة: 170.
(66) النساء: 58.
(67) الوسائل: الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح6.
(68) مجمع البحرين: ج1 ص428، مادّة: جور.
(69) انظر رسائل الشيخ الانصاري (قدس سره): بحث حجّية ظواهر القرآن الحكيم: ج1، ص139.
(70) النساء: 58.
(71) معاني الاخبار: ص107.
(72) الكافي: ج5 ص133، باب أداء الامانة، ح4.
(73) المائدة: 43.
(74) الانعام: 62.
(75) يوسف: 40.
(76) المائدة: 44.
(77) المائدة: 14.
(78) المائدة: 45.
(79) الوسائل: الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ح7.
(80) الوسائل: الباب 34 من أبواب جهاد النفس، ح9.
(81) الوسائل: الباب 13 من أبواب صفات القاضي، ح3.
(82) الوسائل: الباب 6 من أبواب جهاد العدو، ح3.
(83) الوسائل: الباب 9 من أبواب جهاد العدو، ح1.
(84) النساء: 105.
(85) الاحزاب: 21.
(86) النساء: 60.
(87) الوسائل: الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح3.
(88) الوسائل: الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح3.
(89) تفسير نور الثقلين: ج1، ص509.
(90) النساء: 59.
(91) نور الثقلين: ج1 ص497.
(92) الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح4.
(93) البحار: ج51 ص344، تاريخ الامام الثاني عشر.
(94) الوسائل: الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح33.
(95) الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح27.
(96) الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح35.
(97) الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح9.
(98) شرح التبصرة: كتاب الخمس، ج3 ص220.
(99) جامع أحاديث الشيعة: الباب4 من النجاسات، ح1.
(100) الاحتجاج: ج2 ص263.
(101) خلاصة الاقوال: ص404.
(102) المستدرك: الخاتمة، ص64 ـ 61.
(103) ولتتميم الفائدة نقتطف ممّا نقله في أعيان الشيعة: ج5 ص62، الطبعة الحديثة ـ في هذا المجال ما يلي: «الحسن بن خالد بن محمّد بن علي البرقي، أبو علي، أخو محمّد بن خالد، يكنّى أبا علي، له كتب، أخبرنا بها عدّة من أصحابنا، عن أبي المفضّل، عن ابن بطّة، عن أحمد بن أبي عبدالله، عن عمّه الحسن بن خالد انتهى».
وفي معالم العلماء: «الحسن بن خالد البرقي أخو محمّد بن خالد من كتبه تفسير العسكري (عليه السلام) من إملاء الامام (عليه السلام) مائة وعشرين مجلّداً، انتهى».
واستظهر صاحب الذريعة: أنّ المراد بالعسكري الّذي أملى هذا التفسير على المترجم له هو الامام عليّ الهادي (عليه السلام)، لانّه يلقّب بصاحب العسكر، وبالعسكري كولده الحسن (عليه السلام) وليس المراد به الحسن العسكري، وذلك لانّ المترجم كان أصغر من أخيه محمّد بن خالد، وأكبر من أخيه الفضل ـ كما يظهر من الترتيب الذكري في قول النجاشي في محمّد بن خالد: له اخوة يعرفون بأبي علي الحسن بن خالد، وأبي القاسم الفضل بن خالد ـ.
ومحمّد بن خالد صحب ثلاثة من الائمّة (عليهم السلام) ـ كما صرّح به الشيخ (قدس سره): في رجاله ـ: « الكاظم (عليه السلام)المتوفّى 183، والرضا (عليه السلام) المتوفّى 203 والجواد (عليه السلام) المتوفّى 220 ومنه يظهر أنّه لم يرو عن الهادي (عليه السلام) ولم يدرك عصر إمامته » ـ الذريعة: ج4 ص287 ـ.
ثمّ إنّ هذا التفسير أهو غير تفسير العسكري (عليه السلام) المشهور المطبوع ؟ أم المطبوع بعض منه ؟
استظهر صاحب الذريعة إنّه غيره، وأنّ المطبوع ليس بعضاً منه، وأنّ الّذي عدّه ابن شهر آشوب من كتب الحسن بن خالد لقد فقد ولم يبق من مجلّداته عين ولا أثر، ككثير من كتب أصحابنا التي لم تبلغنا إلاّ أسماؤُها، بل فيها ما لم تبلغنا حتّى أسمائها، وذلك لانّ المصرّح به في أوّل المطبوع: أنّه املاء أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) على أبي يعقوب يوسف بن محمّد بن زياد، وأبي الحسن عليّ بن محمّد بن سيّار ـ وفي خلاصة العلاّمة: يسار ـ من أهل استراباد وكان أبواهما خلّفاهما عنده ـ أي: أبقيا الولدين عند الامام العسكري (عليه السلام) ـ فكتباه من إملائه مدّة إمامته (عليه السلام) قريباً من سبع سنين « من 254 إلى 260هـ » ثم روياه بعد عودهما إلى استراباد لابي الحسن محمّد بن القاسم المفسّر الاسترابادي وليس فيه إشارة إلى رواية الحسن بن خالد البرقي له، ولا إلى أنّه كان مشاركاً لهما في السماع من الامام (عليه السلام)....
وقال المحقّق الداماد (قدس سره) في كتابه المسمّى: « شارع النجاة » ـ كما حكاه عنه صاحب المستدركات ـ: إنّ المطبوع غير الّذي رواه المترجم، لانّ الاوّل رواه محمّد بن القاسم ـ وهو ضعيف الحديث ـ عن رجلين مجهولين، والثاني رواه المترجم (يعني: الحسن بن خالد البرقي ) وهو ثقة بالاتّفاق.
وذكر الميرزا حسين النوري (قدس سره) في خاتمة المستدرك ـ ص661 ـ: أنّ التفسير المطبوع هو بعض من التفسير الّذي رواه المترجم.
أقول: وقال في التنقيح ـ ج1 ص222 ـ: « وأمّا لو أُريد به هو الّذي ذكره محمّد بن علي بن شهر آشوب ـ على ما نقله في المستدرك ـ فالسند إليه صحيح، لانّه ذكر: الحسن بن خالد البرقي ـ أخو محمّد بن خالد ـ من كتبه تفسير العسكري (عليه السلام) من إملاء الامام (عليه السلام) والحسن بن خالد ممّن وثّقه النجاشي، وللمشايخ إليه طرق صحيحة، إلاّ أنّ الظاهر أنّه غير التفسير الّذي ذكره الصدوق (قدس سره) باسناده عن محمّد بن القاسم الاسترابادي، لانّه نقل أنّ التفسير الّذي عدّ من كتب البرقي مائة وعشرين مجلّداً، وهذا لم يصل إلينا أبداً، وإنّما الموجود بأيدينا مجلّد واحد يتطابق لما نقله الصدوق (قدس سره) ».
(104) سورة الاسراء: الاية 107 وليست هذه آية السجدة، المستحبّة، وإنما آية السجدة المستحبّة هي الاية 109 وهي: (وَيَخِرُّونَ لِلاَْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) كما في العروة، فصل في سائر أقسام السجود، المسألة الثانية.
(105) يونس: 12.
(106) الصافات: 103.
(107) الاسراء: 7.
(108) البقرة: 158.
(109) النساء: 101.
(110) رجال النجاشي: ص10.
(111) الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح36.
(112) الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح31.
(113) الوسائل: الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ح1.
(114) الكافي: ج1، ص58، باب البدع والرأي، ح17.
(115) قرب الاسناد: ص12، ح36.
(116) المستدرك: الباب6 من أبواب صفات القاضي، ح9.
(117) منية المريد: الباب الثاني في آداب الفتوى، المقدّمة.
(118) مصباح الفقاهة (ط جديد): ج1، ص19.
(119) انظر الجواهر: ج5، ص103، كتاب الطهارة، مبحث التيمّم، قال: « إن أدلّة العسر والحرج غير قابلة للتخصيص، لظهورها أن ليس في الدين ما فيه حرج » ونحوه كلام غيره من الفقهاء (قدس سرهم).
(120) الجواهر: ج1، ص20.
(121) الجواهر: ج1، ص81.
(122) الجواهر: ج1، ص95.
(123) الجواهر: ج1، ص116.
(124) 1. كتاب الطهارة: ج1، ص26، وص236 وفي ص172 فصّل (قدس سره) في الجبر الدلالي بالقبول فيما كان معيّناً لمجمل، وعدم القبول فيما عارض دليلاً معتبراً ومرجعه إلى الاعتراف بالجبر الدلالي إجمالاً.
2. كتاب الصلاة: ج9، ص19 وص20 وص39.
3. كتاب الخمس: ج16، ص71.
4. كتاب الصوم: ج17، ص31 وص36 وص39 وص41 وص82.
5. كتاب الحجّ: ج17، ص403، وج18، ص251 وص342 وص371 وص389 وص391 وص408 وص423 وج19، ص11 وص41 وص59 وص68 وص240 وص272 وص312.
6. كتاب العمرة: ج20، ص454.
7. كتاب الجهاد: ج21، ص270.
8. كتاب النكاح: ج31، ص207.
هذا بعض ما في الجواهر من هذا الباب، ولعلّه لا يكون عُشره.
9. وفي كتاب الطهارة للشيخ الانصاري (قدس سره) باب الحيض عند قول الماتن: « ويجب عليها الاستبراء عند الانقطاع » قال: « والانصاف إنّه لولا فتوى الاصحاب بالوجوب كان استفادته من هذه الاخبار مشكلة ـ إلى أن قال ـ فالعمدة فهم الاصحاب » ونحوه غيره أيضاً.
10. وفي كتاب شرح التبصرة للمحقّق العراقي الشيخ ضياء الدين (قدس سره) في كتاب الصوم: ج4، ص245 وص253 وص294 وفي كتاب الجهاد: فصل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر: ج6، ص539 ونحو ذلك غيره أيضاً.
11. وفي مستمسك العروة الوثقى: ج10، ص191، كتاب الحجّ.
12. وفي مستند العروة تقرير السيد الخوئي (قدس سره)، في قضاء الولي، المسألة الحادية عشرة، ص218، قال: « لكن الصحيحة بظاهرها مطروحة مهجورة ولابدّ من ردّ علمها إلى أهله ».
(125) النساء: 115.
(126) عوالي اللئالي: ج4، ص133، ح229.
(127) الحجرات: 6.
(128) الجواهر: ج13، ص321.
(129) نجاة العباد: صلاة الجماعة، ص173.
(130) العروة الوثقى: شرائط إمام الجماعة، م13.
(131) التنقيح: ج1، ص223.
(132) المائدة: 104.
(133) البقرة: 170.
(134) الوسائل: الباب 10 من أبواب صفات القاضي، ح20.
(135) الوسائل: الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح40.
(136) الكافي: ج1، ص53، كتاب فضل العلم، باب التقليد، ح2.
(137) الكافي: ج6 ص413 باب من اضطرّ إلى الخمر، ح1.
(138) معاني الاخبار: باب معنى الامام المبين، ح2.
(139) الوسائل: الباب6 من أبواب صفات القاضي، ح41.
(140) الفصول: ص411.
(141) الوسائل: الباب6 من أبواب صفات القاضي، ح11.
(142) المستدرك: الباب6 من أبواب صفات القاضي، ح8.
(143) الوسائل: الباب6 من أبواب صفات القاضي، ح32.
(144) الوسائل: الباب6 من أبواب صفات القاضي، ح31.
(145) الوسائل: الباب6 من أبواب صفات القاضي، ح51.
(146) الوسائل: الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ح52.
(147) الوسائل: الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح22.
(148) الكافي: ج1 ص58، باب البدع والرأي، ح19.
(149) الكافي: ج1، ص59، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، ح2.
(150) البحار: ج26 ص34، الباب1 من أبواب علومهم (عليهم السلام)، ح56.
(151) آل عمران: 7.
(152) المستدرك: الباب 32 من أبواب الامر والنهي، ح22.
(153) الوسائل: الباب8 من أبواب صفات القاضي، ح56.
(154) البحار: ج2 ص184، الباب26 في أنّ حديثهم (عليهم السلام) صعب مستصعب، ح5.
(155) الاسراء: 36.
(156) يونس: 36.
(157) الوسائل: الباب11 من أبواب صفات القاضي، ح40.
(158) الاسراء: 36.
(159) الكافي: ج1، ص401، كتاب الحجّة، باب في أنّ حديثهم صعب مستصعب، ح3.
(160) البحار: ج2، ص184، الباب26 في أنّ حديثهم (عليهم السلام) صعب مستصعب، ح5.
(161) الوسائل: الباب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح16.
(162) المستدرك: الباب3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح2.
(163) المستدرك: الباب3، من أبواب أحكام شهر رمضان، ح8.

****************
المصدر: بيان الفقه في شرح العروة الوثقى الاجتهاد والتقليد لسماحة المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي دام ظله: ج 1 ص 19 - 100.


شارك

أدعم هذهِ المشاركة بنشرها وأرسالها عبر التالي:

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 

موقع المحسن الشهيد من 2016; ™ لخدمة محمد وآلِ محمد عليهم السلام وفضح اعدائهم.

Templateism